3. وقع تحت يدي منذ عدة أيام كتيب لأقوال الحسن البصري، فرحت أتصفحه إلى أن وصلت إلى مقولة ا ستوقفتن ى طويلاً، ولم أستطع تجاوزها .. فقد تذكرت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يستزيدون في حفظ كتاب الله قبل تطبيقهم لما قد حفظوا مسبقا .. إنتابني شعور بالخجل والذنب و الخوف ..
4. وأما الذنب .. فما نفع ما نقرأ إن لم نطبق أبجديته الأولى؟ .. كله بحساب .. نسأل الله أن يجعل علمنا حجة لنا لا علينا .. و أما الخوف، فقد تملك بي ولم أجرؤ - ولن أجرؤ - على تتمة القراءة، حتى أعمل بما قرأت .. وإليكم ما قرأت : أما الخجل .. فيا لتقصيري وإسرافي في أمري .. ويا لسعة رحمة الغفور ..
5. والفاسق يقول : سواد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي ! فيؤجل العمل، ويتمنى على الله تعالى " يقول الحسن البصري : " لا يزداد المؤمن صلاحا وبرا وعبادة إلا ازداد خوفا، يقول : لا أنجو !
6. " سواد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي "
7. صحيح أننا لا نتفوه بها صراحة، ولكن كم من مرات ومرات نتصرف على أساسها .. كم من مرة بررنا لأنفسنا عند محاسبتها على ذنب تصر عليه " هي ليست بكبيرة، كما أن فلان وفلان وفلان والكثيرون يرتكبونها، وكلهم يرجون الجنة ..." كم من مرة نظرنا للأدنى بدلاً من الأعلى وفكرنا " كل هؤلاء يرتكبون الكبائر والعياذ بالله ... وما ذنبي هذا مقارنة بجرمهم؟ !...”
8. متناسين خطوات الشيطان التي يلي بعضها البعض، وأن الصغيرة توصل نهاية المطاف إلى الكبيرة .. ومتناسين أن الإنسان يجب أن يرنو للعلى في دينه قبل كل شيء، فيقارن حاله بأحوال الصالحين، مثلما يمد عينيه لمن آتاه الله زهرة الحياة الدنيا، فيطمح ويسعى للأفضل في دنياه ..
10. كم من مرة وعدت قلبي المنقبض بالتوبة ... ( هذه المرة الاخيرة وبعدها سوف أستغفر وأتوب بإذن الله ) و ( بعد أن ينتهي هذا الظرف سوف أضع برنامج عبادة مكثف يعينني علي نفسي إن شاء الله ) و ( لو أنني أرزق الحج هذا العام، لأصبحن إنسانة أخرى و أبدأ حياتي من جديد بمشيئة الله ) و و و ...
11. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . المؤمنون (99-100 ( و و و ... متناسية أن الموت يأتي بغتة و لا يمهل
12. حصل أن مررت بحياتي بموقفين لم يبقيا بيني وبين الموت سوى لطف الله . أفكر بهما الآن وأقارن بينهما ... إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ..
13. أولهما كان منذ حوالي العشرة سنوات عندما كدت أغرق وحيدة في البحر الواسع . لا أحد يدري بمكاني وأنا لا أحسن السباحة، وكل موجة تأتي تبعدني عن الشاطئ أكثر وتكتم أنفاسي .. تحينت الفرصة بين الموجة وأختها لكي ألقي نظرة حولي .. لا أحد ولا شيء سوى البحر والسماء والرمال من بعيد .. لم أحاول أن أصرخ حتى، فلا طائل من الصراخ، إذ لن يسمعني أحد إلا ربي .. أدركت بتلك اللحظة معنى سواد الناس كثير .. نضيع أنفسنا وسط الزحام، ولكن عندما تأتي ساعة الحق : ها أنا وحيدة أنتظر الموت بينما أهلي و أحبابي ملتفون حول مائدة تضم ما لذ وطاب .. لحظات لا أنساها ما حييت .. أغمضت عيني و رددت الشهادة أكثر من مرة، ثم رحت أبذل مجهوداً كبيراً في التركيز على ما أحفظ من كتاب الله لكي أقبض وأنا أتلو القرآن، ولكن الأفكار التي ازدحمت في رأسي لم تسمح لي بأكثر من الفاتحة والناس بعد عدة محاولات ..
14. الرهبة كادت تنسيني إسمي .. أذكر أنني فكرت وقتها : إن كنت لا أحسن قراءة المعوذات الآن، ماذا أفعل عندما يقال لي اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها .. يا الله أين ذهب القرآن الذي أحفظ .. شعرت باستغراب ورهبة .. رهبة نعم .. هذا هو الشعور الذي كان مسيطراً علي وقتها . رهبة و وحشة .. أذكر أنني فكرت أيضا : يا الله .. هذا البحر المتوسط بالذات الذي يعرف الجميع مدى عشقي له، أيعقل أن يكون سبباً في موتي !.. هل ممكن أن يمضي الانسان عمره يحب شيئا يكون سببا في هلاكه؟ ... ثم فكرت في أمي و حزنت جداً لحالها من بعدي، و دعوت الله أن يصبرها .. ثم عدت لمحاولة التلاوة .. كل هذه الأفكار والتلاوة و .. و .. كلها في دقيقة أو أقل ... ثم نجوت بقدرة الله وحدها .. واذكر أنني جلست على الرمال أكثر من ساعة بعدها أنظر إلى البحر في حالة عدم تصديق ..
15. ثم جاء الموقف الآخر أثناء الحرب على لبنان .. الوضع مختلف هذه المرة .. أمي إلى جانبي وإبني في حضني، والطائرة الحربية الإسرائيلية تحوم فوق السيارة على الطريق الذي اعتادت أن تستهدف من يسلكه في الأيام الأخيرة .. كنا نسمع أصوات تفجيرات من هنا وهناك، فلا ندري، لعلنا نكون الهدف التالي .. حمدت الله لأننا إن متنا متنا جميعا، لا حزن ولا قلق .. نطقنا جميعنا بالشهادة . راح فكري لأغلى الناس .. رجوت أن لا ينسوني من دعائهم لي بالمغفرة، فدعوة المحب عادة تكون نابعة من القلب وصادقة ومستمرة . ثم فكرت بمن يموت متفجراً : هل يتألم كثيراً لحظتها؟ يعني هل تكفر الكثير من ذنوبه؟ ..
16. نطقت بالشهادة من جديد و حاولت استعراض شريط " الذنوب المؤجلة " لكي أستغفر عما تسعفني اللحظات الأخيرة لكي أستغفر عنه، فتلعثمت و لم أعرف من أين ابدأ و لا ماذا أقول وأدركت عندها هول حجم " صغائري " ، ففزعت وبكيت وتضرعت ... الثواني لا تكفي .. فات الأوان .. قد كنت أعمل بلا حساب، و الآن قد اقترب الحساب و لا وقت للعمل .. يا رب نجنا يا الله لست مستعدة للموت بصحيفة الأعمال هذه .. يا حي يا قيوم أستغفرك يا ربي قد كنت في غفلة أرجعني أعمل صالحا .. مررنا بجنب حافلة ركاب محترقة تماما .. و لكن الله نجانا ... يا إلهي .. كيف نسيت بعدها؟؟ ....
17. في المرة الأولى لعل ذنوبي كانت أقل، لم أتعلق بالدنيا، ولم أفكر بالدعاء بالنجاة حتى .. جل فكري كان في مدى اغترارنا ببريق الدنيا الزائف، و كل همي كان في حسن الخاتمة . كانت تتملكني الرهبة فقط ..
18. أما في المرة الثانية، فقد تملكني الخوف و الندم .. كل تفكيري كان منصباً في التوبة .. حتى عندما فكرت بأغلى الناس، فكرت بحاجتي إلى الدعاء على مدى السنين لأن ذنوبي كثيرة وتحتاج إلى دعاء مستمر .. شعور بالحسرة لا يوصف .. سبحان الله .. نعرف كل شيء ونردده في الكلام، ولكن كأنما لا نفقهه ولا ندرك حقيقته إلا في اللحظة القاضية .
20. الأهل أين حنانهم؟ باعوا وفائي والصحب أين جموعهم؟ تركوا إخائي والمال أين هناؤه؟ صار ورائي وال ا سم أين بريقه بين الثناء والحب ودع شوقه وبكى رثائي والدمع جف مسيره بعد البكاء
21. واللحد يحكي ظلمة فيها ابتلائي " ويتمنى على الله تعالى " والكون ضاق بوسعه ضاقت فضائي فاللحد صار بجثتي أرضي سمائي هذه نهاية حالي؛ فرشي التراب يضمني و هو غطائي
22. يا ناظراً يرنو بعيني راقدٍ و مشاهداً للأمر غيرَ مشاهدِ تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي دَرَك الجنانِ بها وفوز العابدِ ونسيتَ أن الله أخرج آدماًً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحد
23. قال رجل : يا رسول الله أحدنا يذنب الذنب . قال يكتب عليه . قال ثم يستغفر ويتوب؟ قال يغفر له ويتاب عليه . قال ثم يعود فيذنب؟ قال يكتب عليه . قال ثم يستغفر ويتوب؟ قال يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا . حديث حسن صحيح
25. نستغفر ونتوب و نعاهد الله .. ثم نعود .. مرة أخرى نستغفر ونجدد العهد ألا نرجع أبداً .. ثم نعود .. ثم نلبث حينا ويهل موسم من مواسم الخيرات، فندعوا الله ونتوب .. ثم نعود .. تمر سنوات ونحن على هذا الحال، وفي كل مرة تصبح التوبة أصعب على النفس، ويأتي إبليس اللعين ليزعزع يقيننا، وهو من أسس التوبة والقبول ..
26. أنت قائمة على هذا الذنب منذ سنين، ولقد حاولت الإقلاع عنه أكثر من مرة، هل تصدقين فعلاً أن هذه المرة مختلفة، وأنك لن تعودي إليه أبدا؟؟ .. لقد بات هذا الأمر جزءا من حياتك، هل تعتقدين حقا أنه يمكنك التخلي عنه؟ ! لقد فعلت كذا و قلت كذا و اقترفت كذا، هل تظنين أن كل ذلك يمكن أن يمحى لمجرد بكاؤك وحرقتك الآن !..
27. تساؤلات تدور في كل نفس أعياها الذنب .. و لكن أين الإجابة ؟ لقد وجدت الإجابة مؤخراً في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي رضي الله عنه يوم خيبر : " إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك "
32. تخيلوا معي : خطايا أطفأتها الصدقة، ودعاء مستجاب، وحب من الله، وشفاء ورحمة .. كيف سيكون حالنا عندها ؟ لن تسعنا الأرض بما رحبت
33. ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة (186) مهما طال الانتظار، لا بد أن يستجيب الله إذا استجبنا له و أطعناه
34. فلنثبت ولنصبر ولا نلتفت حتى يفتح الله علينا .. لن أصغي لوسوسة الشيطان يشككني بعفو الله .. لن أفكر بكيف ستكون حياتي وكيف أتدبر أمري وكيف أتخلى وكيف أطيق الصبر ومئة كيف وكيف .. لن ألتفت ! سوف أستقم كما أمرت وأفوض أمري لمن قال : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) الطلاق 2
36. حتى ولو وقعنا من جديد، فلنقم ونتابع بعزم ولا نلتفت وراءنا بيأس من صلاح أنفسنا ونقرر أنه لا خير فينا ولا أمل في صلاحنا، إنما هو الشيطان ييئسنا من روح الله .. حتى ولو شعرنا بفتور و تكاسل، فلا نلتفت ونقول سبب حالنا هذا أنه لم يتقبل منا، فيتملكنا الإحباط، بل لنذكر أن القلوب في إقبال وإدبار ..
37. دعونا لا نلتفت لهذه الأفكار ووساوس الشيطان المحبطة، بل نصبر على الطاعات حتى يفتح الله علينا وينير قلوبنا ويشرح صدورنا ويحيينا حياة طيبة ويجزينا أجرنا بأحسن ما نعمل ..