SlideShare une entreprise Scribd logo
1  sur  40
Télécharger pour lire hors ligne
‫اإلصالح‬

‫﴿ إن أريد إ ّ اإلصالح ما استطعت‬
‫ال‬
‫وما توفيقي إ ّ باهلل﴾‬
‫ال‬

‫( قرآن كريم)‬

‫العدد السابع واألربعون السنة الثانية 8 ربيع األول 5341 - - جانفي 4102‬
‫العدد الثامن والعشرون السنة الثانية - 9مجادى الثانية 4341 0191 أفريل 3102‬

‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬
‫بقلم : محمد القوماني‬

‫الثورة التونسية وصناعة الحياة‬
‫بقلم : د. حسن الطرابلسي‬

‫ما هكذا تبنى األوطان، ما هكذا تنهض األمم ...‬
‫بقلم : شكري عسلوج‬

‫في السؤال القديم المتجدد:‬
‫الثورة العربية بين الممكن والمستحيل‬
‫بقلم : د.محمد الحاج سالم‬
‫األولى‬
‫بسم هللا والصالة والسالم على رسول هللا‬
‫ّ‬
‫ما حدث قبل ثالث سنوات كان حدثا جلال ال ريب فيه شد إليه أنظار العالم كلّه وأخرجنا نحن العرب من سباتنا العميق ومن واقع طغى عليه‬
‫االستبداد والظلم والقهر. لقد غيّرت األحداث التي اندلعت في تونس ثم انتشرت كانتشار النار في الهشيم في بقية الدول العربية موازين القوى‬
‫وأسقطت عددا من رؤوس األنظمة االستبدادية الفاسدة ومارست الشعوب ألول مرّة في تاريخها حقّها االنتخابي بكل حرّية وشفافية وأتت بمن‬
‫ّ‬
‫كان في السجون إلى سدة الحكم. غير أن األمور لم تسر كما تمنّتها الشعوب العربيّة وتحوّل الربيع العربي إلى خريف تساقطت معه المكاسب كما‬
‫تتساقط أوراق الشجر وتحوّل الحلم العربي إلى كابوس مخيف يعلم هللا وحده متى تستيقظ منه الشعوب.‬
‫فبدال من حصول انتقال من االستبداد والقمع إلى الحرّية والديمقراطية ومن نظام الشخص الواحد إلى نظام ديمقراطي ومن حكم العائلة إلى‬
‫حكم الشعب عبر إرساء دعائم نظام يقوم على المواطنة ، عاد النظام القديم في اليمن في جلباب جديد وانقلب العسكر على الرئيس الشرعي في‬
‫مصر ودخلت ليبيا في دوامة حرب العصابات ونظام الالدولة وتحولت سوريا إلى حلبة قتال عنيف راح ضحيّته عشرات اآلالف من المدنيين‬
‫ّ‬
‫السوريين من أطفال ونساء وشيوخ. أما تونس فقد شهدت عودة االغتياالت السياسية وأصبحت البالد تودع أزمة لتستقبل أخرى أعنف منها فهل‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫هذا هو النتاج الطبيعي للفترة االنتقالية التي تعرفها كل الثورات ؟ وهل تدخل هذه االضطرابات والتجاذبات ضمن إرهاصات الثورة؟ أم أنها‬
‫ّ‬
‫االنتكاسة والعودة إلى نقطة الصفر؟ وهل ما يحدث اليوم سببه فشل النخبة السياسية التي تسلّمت زمام األمور في تحقيق الشعارات التي رفعتها‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الجموع الثائرة وفي استعادة أمن واستقرار البالد ؟، أم أن قوى الردة أو ما يصطلح على تسميته بقوى الثورة المضادة قد بدأت تأخذ بزمام األمور‬
‫بعد أن فرضت وجودها في غياب قرارات ثورية لتحصين الثورة؟ أم أن األمر مرتبط أساسا بعوامل خارجيّة ضاغطة ومتحكمة في األحداث؟‬
‫أسئلة عديدة تطرح نفسها ونحن نحتفل بالذكرى الثالثة الندالع الثورات العربية ، لعلّنا نفهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث في المستقبل.‬
‫يرى البعض أن القوى االستعمارية التي كانت تساند الطواغيت قد استفاقت بسرعة من صدمتها بعد أن فاجأها الزلزال العربي واستطاعت‬
‫بحكم حنكتها ودهاء سياسييها من جهة وضعف خبرة القوى التي أتت بها الثورة وعدم توحّدها من جهة أخرى بأن تأخذ من جديد بزمام األمور‬
‫وتتحكم في العملية السياسية بدول «ثورات الربيع العربي» وتوجهها نحو إجهاض عملية االنتقال الديمقراطي أو على األقل تشويهه بما يضمن‬
‫مصالحها االستعمارية وتبعية األنظمة الجديدة لمنظومتها.‬
‫ويرى البعض اآلخر بأن ما حدث خالل السنوات الثالث أمر طبيعي ذلك أن الثورة ليست عمال محدودا في الزمان والمكان وإنما هي عمل‬
‫معقّد من حيث تداخل عناصره وارتباطه بالواقع الجيو- سياسي واالجتماعي وهو أيضا شاق ومضن يتطلب الكثير من التضحيات والصبر والعمل‬
‫ٍ‬
‫واليقظة فال يمكن حرق مراحل الثورة أو استعجال قطاف ثمارها. وما يحدث اليوم في تونس أو في مصر إنما هي تحوالت طبيعيّة ومتوقعة فقوى‬
‫ّ‬
‫الثورة المضادة والمعارضة للنظام الجديد تتوحّد وتسعى جاهدة إلفشال المسار الثوري لكنها ستفشل حتما بقرار سنن التاريخ حتّى وان اعترت‬
‫هذا المسار هزّ‬
‫ات ومطبّات ألن ما يحدث اليوم إنما هو استكمال متأخر لموجة الديمقراطية الثالثة على رأي المفكر األمريكي الراحل صموئيل‬
‫هنتنغتون التي شملت دول من أوروبا الشرقية وأمريكا الالتينيّة وبعض الدول اإلفريقية أو هو بداية لموجة ديمقراطية رابعة انطلقت من تونس‬
‫لتنخرط فيها بقية الدول العربية وغيرها التي مازال يحكمها االستبداد والقمع.‬
‫ونحن نرى أن تفسير ما حدث خالل السنوات الثالث الماضية يحتمل شيئا من هذا وشيئا من ذاك . لقد قررت الشعوب العربية بانتفاضتها أن‬
‫ّ‬
‫تنخرط في عمليات التحرر من أنظمة االستبداد والتسلط والتماس طريقها نحو االنتقال الديمقراطي برغم أنف قوى الشد إلى الوراء ومن تساندها‬
‫َ ِ ُ‬
‫ْ‬
‫من قوى استعمارية وقوى معادية لهذه األمةّ تخشى نهضتها وستتحقق إرادتها بعون هللا « ونُريد أَن نَّمن علَى الَّذينَ استُضْ عفُوا فِي الأَْرْ ض‬
‫ُ َّ َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫َ َ ِّ‬
‫َ َ َ ُ َ َ ِ ْ َّ َ‬
‫ونَجْ علَهُم أَئِمةً ونَجْ علَهُم الوارثِينَ (5) ونُمكنَ لَهُم فِي الأَْرْ ض ونُري فِرْ عَوْ نَ وهَامانَ وجنُودهُما منهُم ما كانُوا يَحْ ذرُونَ (6)» سورة القصص .‬
‫ْ‬
‫َ َ ْ َّ َ َ ُ ْ َ ِ‬
‫ِ َ ِ‬
‫غير أن النجاح في تحقيق هذه اإلرادة ال يمكن أن يحصل إال عبر العمل المشترك في المسارات الثالثة التالية: السياسية والثقافية واالقتصادية.‬
‫فالمواطن العربي الذي ثار على االستبداد يرى أن أولوياته تكمن في تحسين األوضاع االقتصادية وتحقيق االستقـــرار واألمـــن وهذا ال يمكــن‬
‫ّ‬
‫أن يتحقق إالّ عبر إرساء نظام ديمقراطي حقيقي يرتكز على ثقافة المواطنة الغائبة إلى حد اآلن وهو ما يتطلب توحيد الجهود إلنجاز ثورة ثقافية‬
‫تنسف ثقافة االستبداد واألنانية والفوضى وتكرّس بديال وطنيّا قائما على االحترام المتبادل بين الدولة والمواطن وبين المواطنين أنفسهم وهو عمل‬
‫صعب وشاق ال نرى مكونات المجتمع المدني من جمعيات ومفكرين ومثقفين قد انطلقوا في انجازه بعد.‬
‫سيبقى تحول الشعوب العربية من واقع االستبداد والتهميش إلى واقع السيادة والمواطنة أعرجا ما لم تصاحبه ثورة ثقافية شاملة وحركة‬
‫اقتصادية تعمل في كل االتجاهات وتؤسس على حبّ العمل واالستثمار في الوطن ومن أجل الوطن وستبقى المرحلة القادمة مفتوحة على كل‬
‫االحتماالت مادامت القوى السياسية والمجتمعية تفتقر إلى رؤية مستقبلية مشتركة، أو متقاربة بالحدود الدنيا المطلوبة.‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫فهل ستتواصل الهزات واالرتدادات واألزمات خالل هذا العام الجديد أم ستعرف مختلف القوى كيف تضع القطار على السكة الصحيحة‬
‫لينطلق نحو الهدف المنشود؟ سؤال نختم به مصافحتنا وللحديث بقية.‬
‫-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- المهندس فيصل العش‬

‫2‬
‫الفهرس‬
‫بهدوء‬
‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نُفصح..‬
‫مجرّد رأي‬
‫الدستور التونسي والمنزلة بين المنزلتين‬
‫في الصميم‬
‫األمة في حاجة إلى «رجال مبادئ»‬
‫وليس إلى حوار «الطرش»‬
‫حوار حول الثورة‬
‫في السؤال القديم المتجدّد:‬
‫الثورة العربيّة بين الممكن والمستحيل‬
‫نقاط على الحروف‬
‫ما هكذا تُبنى األوطان، ما هكذا تنهض األمم ...‬
‫تمتمات‬
‫وأخيرا نجحنا‬
‫الكلمة الحرّة‬
‫ّ‬
‫اإلسالميّون والثورات العربيّة ... على سرير بروكوسْتْ‬
‫همسات‬
‫هل هي ثورة فعال ؟ هل هي انتفاضة ؟‬
‫هل هي مسار ثوري ؟ أم ماذا ؟‬
‫في العمق‬
‫الثورة التونسية وصناعة الحياة‬
‫وجهة نظر‬
‫الثورة التونسية بين عفن الموروث و معلمة الكهنوت‬
‫في التحليل السياسي‬
‫الثورة التونسية : من إسقاط النظام إلى عودة األزالم.‬
‫مدى النجاح أو الفشل !...‬
‫من وحي الحدث‬
‫صعوبات اإلنتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي‬
‫بال حدود‬
‫في الثورة: يقولون « ثورة » في تونس مريضة، قلت‬
‫أغاني الحياة‬
‫راجع راجع لبالدي‬
‫قبل الوداع‬
‫بيت العنكبوت‬

‫محمد القوماني‬

‫4‬

‫عادل السمعلي‬

‫9‬

‫د. مصباح الشيباني‬

‫01‬

‫د. محمد الحاج سالم‬

‫21‬

‫شكري عسلوج‬

‫61‬

‫رفيق الشاهد‬

‫91‬

‫عبداللطبف علوي‬

‫02‬

‫إسماعيل بوسروال‬

‫32‬

‫د. حسن الطرابلسي‬

‫52‬

‫طه مصدق كعنيش‬

‫82‬

‫علي الطرهوني‬

‫03‬

‫محمد الطرابلسي‬

‫43‬

‫نعمان العش‬

‫63‬

‫غناء شباب الثورة‬

‫83‬

‫لطفي الدهواثي‬

‫93‬

‫3‬
‫بهدوء‬
‫ُ‬
‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬
‫بقلم : محمد القوماني*‬
‫ّ‬
‫يحيـي التونسيــون الذكــرى الثالثــة لثــورة الكرامــة والحريـــة‬
‫ّ‬
‫71 ديسمبر/ 41 جانفي، مرة أخرى في ظل حالة من االنقسام السياسي‬
‫الذي لم يسمح حتّى اآلن باالتفاق على تاريخ موحّد لذكرى الثورة‬
‫ّ‬
‫فضال عن أنشطة مشتركة لالحتفال بها، ووسط مخاوف متعددة‬
‫وخاصة منها األمنية، لم تتح فرصة لمعنى االحتفال أصال منذ هروب‬
‫الدكتاتور. وفي انتظار النتائج النهائية للحوار الوطني على جميع‬
‫المسارات، الذي مازالت بعض اآلمال معلّقة عليه، رغم الصعوبات‬
‫والخيبات، في تجاوز األزمة السياسية خاصة، وإحياء ذكرى الثورة‬
‫يوم 41 جانفي 3102 في أجواء احتفالية وتضامنية، في انتظار ذلك،‬
‫وبعد ثالث سنوات من الثورة المجيدة، وبعد أن ابتعدنا نسبيا عن أجواء‬
‫الضغط بأنواعه وتراجعت العواطف لتفسح المجال للعقل بالمراجعة‬
‫والتحليل، نرى من حقّنا ومن واجبنا في آن، أن نفصح عن بعض‬
‫ّ‬
‫المعطيات واالستنتاجات التي نقدر أن الوضوح فيها بات مطلوبا بل‬
‫شرطا للنجاح في استكمال المسار الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة.‬
‫1 ـ ثورة حقيقية‬
‫بعيدا عن الجدال العقيم أحيانا حول مفاهيم الثورة واالنتفاضة‬
‫واالحتجاج والغضب والتمرّد وغيرها من المصطلحات التي يختلف‬
‫المحللون في أيّهـــا األنسب فــي توصيف مــا حصــل بتونس ما بين‬
‫71 ديسمبر 0102 و41 جانفي 1102، يسلّم الجميع بأن أقل من‬
‫شهر من التحركات الشعبيّة التي انطلقت من سيدي بوزيد وامتدت إلى‬
‫القصرين بالوسط الغربي التونسي لتأخذ منعرجا حاسما، ولتعم مختلف‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الواليات بدرجات متفاوتة من االحتجاج، كانت كفيلة بوضع حد لنظام‬
‫بوليسي كان يُنظر إليه على أنه من أعتى الدكتاتوريات في المنطقة.‬
‫تساءلت شخصيّا في مقال نشرتة مطلع جانفي 1102 بعنوان: الغضب‬
‫االجتماعي بالوسط التونسي: هل يكون البداية؟ (1) وجاء الجواب‬
‫ّ‬
‫سريعا. ولعلّه من المفيد أن أذكر ببعض المقتطفات من ذلك المقال‬
‫ألهميتها في إضـــاءة جوانب مــن واقع الحــال، والتي ذكرت فيها أن‬
‫« تحرّكات الغضب االجتماعي بوالية سيدي بوزيد بالوسط التونسي‬
‫التي امتدت على مدى األسبوعين األخيرين من سنة 0102، وجّهت‬
‫ضربة موجعة للخطاب السياسي الرسمي القائم على جُمل دعائية‬
‫ُ‬
‫مفادها : «نجحنا ..ورضي المواطنون.. وشهد لنا العالم ..وسنواصل».‬
‫كما شكلت تلك التحركات بتلقائيتها وخلفياتها االجتماعية وما القته من‬
‫تجاوب في بقية جهات البالد وما حظيت به من دعم سياسي وتغطية‬
‫إعالمية واسعة، فرصة استثنائية للوقوف على قضايا وطنية في غاية‬

‫األهمية». وأضفت أن «تحركات الغضب االجتماعي بوالية سيدي‬
‫بوزيد خاصة، وما سبقها من أحداث بالحوض المنجمي وبجهات‬
‫ّ‬
‫أخرى تؤشر على أن االنجازات دون المطلوب، وأن ثمار التنمية‬
‫تحتاج إلى عدل أكبر في التوزيع، وأن الرضا عن النفس مضرّ، وأن‬
‫صبر المواطنين محدود، وأن استحسان األجانب ال يصمد أمام مظاهر‬
‫الغضب الشعبي. وأن مراجعات جوهرية باتت متأكدة لمنوال التنمية‬
‫في الثقافة التي يستند إليها وفي األهداف التي يضعها وفي قاعدته‬
‫االقتصادية بالداخل والخارج وفي الخيارات التي ينتهجها والسياسات‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التي يعتمدها». وشددت على أن «المعارضة بجميع أطيافها، بأحزابها‬
‫وجمعياتها، وبنشطائها السياسيين والحقوقيين، لم تُوفّ‬
‫ق في الصياغة‬
‫المناسبة للتّالزم بين الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحقوق االقتصاديّة‬
‫واالجتماعيّة، وبين مطالب الحرّيات الفرديّة والعامة ومطالب تحسين‬
‫ّ‬
‫ظروف عيش المواطنين. ولذلك تُربك االحتجاجات االجتماعية في كل‬
‫ُ‬
‫مرة المعارضة في خطابها وأجندتها.» ولست أبالغ حين أقول اليوم‬
‫أننا بعد ثالث سنوات من ثورة 71 ديسمبر لم نستخلص الدرس في‬
‫ّ‬
‫الممارسة سلطة ومعارضة، ولم نوف حقوق الشهداء رحمهم هللا تعالى‬
‫والجرحى والمستضعفين الذين فجروا تلك الثورة العظيمة، وما زال‬
‫الوضع تقريبا على حاله.‬
‫هرب المخلوع وبعض أفراد عائلته مساء يوم 41 جانفي 1102،‬
‫وانزاح عن تونس كابوس االستبداد والفساد. تحرّر التونسيون ودخلوا‬
‫في أجواء ما تواضعوا على تسميته بالثورة، التي دخلوا في حركيتها بعد‬
‫41 جانفي بأعداد أكبر بكثير مما حصل قبل ذلك. تسارعت األحداث‬
‫وسط مخاوف أمنية جمة وتضامن شعبي الفت في حماية األحياء‬
‫ّ‬
‫والممتلكات العامة والخاصة وفي ظل غموض في تفسير ما يحدث.‬
‫غادر نزالء السجون من السياسيين وأصحاب الرأي خاصّة مواقعهم‬
‫وعاد المهجّرون قسريّا تباعا. نشطت األحزاب والجمعيات بعد إعالن‬
‫العفو التشريعي العام وإطالق حرية التنظّم القانوني. تغيّرت مالمح‬
‫اإلعالم الخشبي وارتفع منسوب حرية التعبير إلى درجات قياسية.‬
‫قادت بعض التحركات التلقائية في اإلدارة والمؤسسات والمدن والقرى‬
‫إلى إجبار مسؤولين في العهد البائد على التنحّي تحت شعار «ديقاج»‬
‫واستبدالهم بآخرين، وشملت العملية حتى بعض أئمة المساجد. كثر‬
‫الجدال واللغط في أغلب األحوال حول الماضي والحاضر والمستقبل‬
‫وتوّجت المرحلة االنتقالية األولى التي اعتمدت على «التوافق»‬
‫بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي يوم 32 أكتوبر 1102 التى أشاد‬
‫الجميع في الداخل والخارج بنزاهتها واعتبارها أول انتخابات حرّة‬

‫«أننا بعد ثالث سنوات من ثورة 71 ديسمرب مل نستخلص الدرس يف املمارسة سلطة ومعارضة،‬
‫ّ‬
‫ومل نوف حقوق الشهداء رمحهم اهلل تعاىل واجلرحى واملستضعفني الذين فجروا تلك الثورة‬
‫العظيمة، وما زال الوضع تقريبا على حاله . »‬

‫4‬
‫ُ‬
‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬

‫وتعددية وشفافة في تاريخ تونس.‬
‫انتصب مجلس تأسيسي منتخب من المعارضين السابقين في‬
‫أغلبيته الساحقة، وإن بدا كثير منهم من غير المعروفين، واختار‬
‫أعضاء المجلس المعارض البارز مصطفى بن جعفر رئيسا له. تم تسليم‬
‫ّ‬
‫السلطة للفائزين في االنتخابات وسط أجواء الفتة وصفت بالمتحضّرة‬
‫ُ‬
‫والديمقراطيّة. دخل المنصف المرزوقي، المعارض الشرس لبن علي،‬
‫قصر قرطاج رئيسا لتونس. ودخل حمادي الجبالي السجين السياسي‬
‫من حركة النهضة المحظورة سابقا، قصر القصبة، رئيسا لحكومة كان‬
‫كثير من أعضائها من المساجين السياسيين والمهجّرين والمعارضين‬
‫البارزين. وكانت كل هذه التحوّالت التي حاولنا اختزالها في العناوين‬
‫الكبرى أدلّة قاطعة على أن تغييرات كبرى قد حصلت في الحكم وفي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المجتمع، يحق وصفها بالثورة دون تردد. ثورة شدت أنظار العالم‬
‫وشاع خبرها، وسرعان ما انتقل فتيلها إلى ربوع عربيّة أخرى في‬
‫مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وكان انتصار الثورة في مصر‬
‫وليبيا خاصة خير سند للثّورة التونسيّة.‬
‫2 ـ ثورة مخصوصة‬
‫خالل ثالث سنوات بعد الثورة تعاقبت علينا أربع حكومات‬
‫ّ‬
‫والخامسة في الطريق، لكن إلى حد اآلن ال توجد رواية رسميّة لما‬
‫حدث في يوميّات الثورة وخاصة يوم 41 جانفي وما تاله. كما ال‬
‫توجد روايات غير رسميّة موثوق بها ومتفق عليها. مازال التونسيون‬
‫يتطلّعون إلى الحقيقة. من قتل الشهداء وأصاب الجرحى؟ ما حقيقة‬
‫القنّاصة؟ ما الذي دفع بن علي إلى الهروب المفاجئ؟ ما تفاصيل‬
‫ما جرى بقرطاج في الساعات األخيرة قبل الهروب وما تالها من‬
‫قرارات؟ من كان يدير دفّة األمور ويقف وراء القرارات الحاسمة؟‬
‫ما حجم التدخل الخارجي في األحداث والقرارات؟ من هي الجهات‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المتدخلـــة؟ هل فر بن على أم أجبـــر علـــى المغــــادرة؟ ماذا حصل‬
‫في صفوف قوات األمن والجيش؟ ما حقيقة محاوالت االنقالب‬
‫ّ‬
‫الفاشلــة أو المتضادة؟ ما جوهر الصّراع داخل النخبة الحاكمة وما هي‬

‫ّ‬
‫أطرافه؟ ما سر االعتقاالت في صفوف القيادات األمنية والسياسية؟‬
‫هل حصلت صفقات سياسيّة من وراء ظهور عموم التونسيين؟...أسئلة‬
‫عديدة لم تحسم أجوبتها ومعطيات كثيرة لم يتم الكشف عنها رغم‬
‫أعمال اللجان العديدة التي تشكلت في الغرض ورغم مرور وقت ليس‬
‫بالقليل. وهذا ما يزيد في صعوبة فهم ما حدث وفي تعقيدات الجدال‬
‫النظري حول الثورة التونسية.‬
‫رضي عموم التونسيين أن يتم التحول «الثوري» في إطار‬
‫ّ‬
‫«دستور» 9591 المنقّح مرارا على القياس، والذي طالما انتقدته‬
‫المعارضة واعتبرته غطاء لالستبداد. وتم تنصيب رئيس «برلمان‬
‫بن علي» السيد فؤاد المبزع رئيسا مؤقتا للجمهورية بعد الثورة.‬
‫ودخلت وجوه بارزة من المعارضة في حكومة مع وزراء سابقين‬
‫برئاسة السيد محمد الغنوشي الوزير األول في «حكومة بن علي»‬
‫وبدا األمر أقرب إلى استمرار «حكم التجمع الدستوري» دون بن علي‬
‫وعائلته. استمر غضب الشباب واحتجاجاتهم وتصاعد وهج الثورة في‬
‫اعتصام القصبة1 واعتصام القصبة2 وتشكلت معارضة لهذا المسار‬
‫في إطار «المجلس الوطني لحماية الثورة» الذي ضم أهم األحزاب‬
‫ّ‬
‫برعاية االتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين‬
‫والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق اإلنسان، فكانت من نتائج تصاعد‬
‫االحتجاجات والضغوط، استقالة حكومة السيد محمد الغنوشي وإعالن‬
‫ّ‬
‫الرئيس المؤقت إلغاء العمل بالدستور وحل الهيئات الدستوريّة القائمة‬
‫وتحديد موعد النتخاب مجلس وطني تأسيسي. تشكّ‬
‫لت في ظروف‬
‫اعتراها كثير من الغموض حكومة جديدة برئاسة السيد الباجي قائد‬
‫السبسي، الوزير األسبق في حكم الرئيس بورقيبة ورئيس برلمان‬
‫أسبق في أوائل حكم بن علي، لتأمين االنتخابات واستكمال المرحلة‬
‫االنتقالية التوافقية، وتواطأت مختلف األطراف السياسية واالجتماعية‬
‫والمدنية في القبول بحكومة سي الباجي. وتم بعث «الهيئة العليا لتحقيق‬
‫ّ‬
‫أهداف الثورة واإلصالح السياسي واالنتقال الديمقراطي» برئاسة‬
‫ّ‬
‫السيد عياض ابن عاشور لتحل عمليّا مكان المجلس الوطني وتعمل‬
‫ّ‬
‫في إطار رسمي بالتعاون مع الحكومة، وبسقف أقل بكثير مما طرحه‬
‫«المجلس الوطني لحماية الثورة» في التنقيحات التي اقترح إجراءها‬
‫على المرسوم الرئاسي المحدث للهيئة العليا.‬
‫هكذا بدت المرحلة االنتقالية األولى مزيجا من الخطابات والمطالب‬
‫ّ‬
‫والقرارات الثورية ومن القرارات واإلجراءات والممارسات المضادة‬
‫للثورة. إذ تم من ناحية إقرار العفو التشريعي العام واعتقال بعض‬
‫ّ‬
‫رموز النظام السابق وحل التجمع الدستوري وإدخال تغييرات في‬
‫وزارة الداخلية ومصادرة بعض األمالك المرتبطة بالرئيس السابق‬
‫وعائلته وبشبكات الفساد المالي والتوجه إلى انتخاب مجلس وطني‬
‫تأسيسي وتشكيل هيئة عليا مستقلة لالنتخابات...وتم من ناحية ثانية‬
‫ّ‬
‫وبالتّـــوازي، تالعب بجــزء مــن األرشيــف وتنقّــل مشبـــوه لألموال‬
‫واستعادة بعض الوجوه والدوائر المرتبطة بالمنظومة القديمة لمواقع‬

‫« خالل ثالث سنوات بعد الثورة تعاقبت علينا أربع حكومات واخلامسة يف الطريق، لكن إىل حد‬
‫ّ‬
‫اآلن ال توجد رواية رمسية ملا حدث يف يوميات الثورة وخاصة يوم 41 جانفي وما تاله. كما ال توجد‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫روايات غري رمسية موثوق بها ومتفق عليها. »‬
‫ّ‬

‫5‬
‫ُ‬
‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬
‫النفوذ في اإلدارة واإلعالم واألمن والقضاء وتشكيل مجموعات من‬
‫التجمع المنحل، الذي لم يتم تفكيكه، ألحزاب بعناوين جديدة، وغياب‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫أية رؤية أو توجّه جدي للمحاسبة والمصارحة والمصالحة وإلصالح‬
‫المؤسسات والقطاعات وخاصة الداخلية والقضاء واإلعالم...‬
‫تم التركيز قصدا، من بعض الجهات التي انتسبت إلى الثورة‬
‫ّ‬
‫مخاتلة، على أن الثورة التونسية تلقائية وسلمية، ال قيادة لها وال‬
‫ُ‬
‫دور لألحزاب السياسية فيها، وأنّ‬
‫مطالبها اجتماعية وتنموية وليست‬
‫سياسية، وذلك بغاية إفراغ الثورة من محتواها والمساواة بين المتسببين‬
‫فيها بفسادهم وظلمهم من المنظومة القديمة والخاسرين لمواقعهم‬
‫ومصالحهم بسببها، وبين المشاركين فيها من المكتوين بنار االستبداد‬
‫ُ‬
‫والفساد، من مختلف األجيال واالتجاهات الفكرية والسياسية، الذين‬
‫راكموا أسبابها بنضاالتهم وتضحياتهم، والمستفيدين من هذه الثورة‬
‫المباركة التي توّجت مسارا ولم تحصل فجأة كما يتم الترويج لذلك،‬
‫بصرف النظر عن تعقيدات اليوميّات الحاسمة في الثورة والمتدخلين‬
‫فيها والفاعلين في نتائجها.‬
‫لهذه األسباب جميعا، ولتفاصيل أخرى يطول شرحها، يمكن‬
‫القول أن ثورة الحرية والكرامة التونسية، ثورة حقيقية ال مصلحة‬
‫في التشكيك فيها، للمنحازين إليها والمستفيدين من حصولها، لكنها‬
‫ّ‬
‫تبقى ثورة مخصوصة على غير مثال سابق، يتحدد مصيرها ومدى‬
‫نجاحها في تحقيق أهدافها بمدى قدرة المدافعين عنها في مواجهة القوى‬
‫المضادة للثورة وإحباط مخططاتهم إلفشال مسارها واالنقضاض على‬
‫مكتسباتها. وأحسب أن االنتصار الحقيقي للثورة لن يكون بالمزايدة‬
‫في االنتساب إليها والوصاية عليها بخطابات «ثورجية» تنفّر وال‬
‫ّ‬
‫تبشر، وتهدم وال تبني، وتفرّق وال تجمع، بل بخطاب إصالحي أصيل‬
‫ّ‬
‫وبدائل عملية تكشف قدرة على االقتراح، وتوازي بين الهدم والبناء‬
‫وتقطع مع منظومة الفساد واالستبداد، دون أن تفرّط في المكاسب‬
‫وتضم جهود المتأخرين لمن سبقهم في الخير واإلصالح.‬
‫3 ـ مسار تأسيسي خاطئ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫تمر تونس بعد ثالث سنوات من الثورة بأزمة سياسيّة حادة، يحتدم‬
‫فيها الصراع العاري حول الحكم ويضرب فيها اإلرهاب بقوة وتدخل‬
‫أجهزة الدولة سرعة قصوى في مواجهته، وتتعاظم مخاطر االنهيار‬
‫االقتصادي واالنفجار االجتماعي والفوضـــى وتتزايــــد التدخــــالت‬
‫الخارجية في الشأن الداخلي ويُلقي الزلزال السياسي المصري بظالله‬
‫على الساحة الوطنية. وتبدو األزمة الحالية وثيقة الصّلة بمسار ما بعد‬
‫االنتخابات.‬
‫لم يكن الخطأ في اختيار انتخاب مجلس وطني تأسيسي كما يرى‬
‫البعض، فهذا االختيار يبدو أقرب إلى جوهر الثورة في النزوع إلى‬
‫القطع مع منظومة الفساد واالستبداد، بل كان الخطأ في ضعف تمثّل‬
‫مقتضيات التأسيس والتعاطي غير المناسب مع تلك المقتضيــــــــات.‬

‫إذ تعكس األزمة الحالية في العمق، مأزق مسار تأسيسي خاطئ نبّهنا‬
‫ّ‬
‫إليه مبكرا حين قلنا بعد انتخابات 32 أكتوبر 1102 أن «استقطاب‬
‫المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة نراه غير صحّي في سياق‬
‫ّ‬
‫تأسيسي، يقتضي شراكة ال تطمس التعددية وحق االختالف.‬
‫فاألطرف الحاكمة مهما كانت شرعيّتها، ال يمكن أن تستأثر بالمرحلة‬
‫لوحدها. والشرعية االنتخابية غير كافية لممارسة السلطة. إذ ال يمكن‬
‫الحكم بمنطق األغلبية في غياب دستور وعقد اجتماعي وسياسي‬
‫واتفاق بين جميع األطراف على قواعد إدارة الحكم. كما أن األطراف‬
‫ّ‬
‫السياسية التي اختارت المعارضة مبكرا وصنعت حاجزا بينها وبين‬
‫الحكومة، تتحمل المسؤولية في المشهد االستقطابي السلبي ومخاطره.‬
‫فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة‬
‫السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق أهداف الثورة.‬
‫فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا ألي طرف.‬
‫والتوازن ضروري للمجتمع في كل األحوال».(2)‬
‫كانت فكرة الحكم من خالل ائتالف حزبي ثالثي اختيارا صائبا‬
‫مقارنة بالتجربة المصرية على سبيل المثال، مع أن ذلك الثالثي لم‬
‫يمنح الحكم الجديد السند السياسي الكافي لمواجهة تحديات كبرى بعد‬
‫الثورة وإرث ثقيل لم يحسن الثالثي الحاكم تقديره. فالشرعية االنتخابية‬
‫التي بالغت «الترويكا» في التذكير بها، لم تمنحها القوة السياسية‬
‫المطلوبة للحكم وفرض التقيّد بالقانون. مما شجّع على االنفالت األمني‬
‫واستفحال الجريمة بأنواعها وتهديد الممتلكات الخاصة والعامة وتهديد‬
‫الحريات والعجز عن التحكم في االرتفاع المشط لألسعار واستمرار‬
‫االحتجاجات االجتماعية وعدم نشاط االستثمار الداخلي والخارجي‬
‫بالنسق المطلوب. ولذلك نادينا بعد مواجهات أحداث 90 افريل‬
‫2102، أي أشهر قليلة بعد حكم «الترويكا»، إلى «مبادرة سياسية‬
‫لخفض التشنج وبناء الشرعية»(3). وعملنا في هذا االتجاه ولم نجد‬
‫التجاوب الكافي.‬
‫أساءت «الترويكا» استخدام التفويض الشعبي، فبدت تشتغل‬
‫ّ‬
‫كوريث للحكم المنهار في حين تشدد في خطابها على التأسيس والقطع‬

‫« تبقى الثورة التونسية ثورة خمصوصة على غري مثال سابق، يتحدد مصريها ومدى جناحها‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يف حتقيق أهدافها مبدى قدرة املدافعني عنها يف مواجهة القوى املضادة للثورة وإحباط‬
‫خمططاتهم إلفشال مسارها واالنقضاض على مكتسباتها»‬

‫6‬
‫ُ‬
‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬

‫مع الماضي. ودفعتها نشوة االنتصار في االنتخابات في المرحلة‬
‫األولى من الحكم خاصة إلى إظهار استعالء ونزعة في الهيمنة زادتا‬
‫في توتير الوضع السياسي. ولذلك اعتبرنا دائما أن تعبير «الصفر‬
‫فاصل» في وصف المعارضة تعبير خاطئ ومضلّل وسلبي.‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫تعددت أخطاء الثالثي الحاكم بقيادة حركة النهضة، الذي لم يف‬
‫بوعوده المعلنة في برامجه وحملته االنتخابية، وكشف عن سذاجة‬
‫سياسية أو سوء تقدير، حين علّق آماال عريضة على انتصار الثورة‬
‫الليبية وعلى وعود األشقاء واألصدقاء بالدعم المطلوب. وتآكلت‬
‫مصداقيته مع مرور األشهر وتجديد وعوده بالنتائج المرجوّة في‬
‫قادم األيام. عجزت الحكومة على تنفيذ مشاريعها المعلنة في الجهات‬
‫المحتقنة خاصة. تفاقم التهريب بأنواعه واستشرى االحتكار والفساد‬
‫وارتفعت األسعار وكثر التذمر الشعبي من صعوبات العيش وتراجع‬
‫ّ‬
‫الخدمات. تعطّل اإلنتاج في قطاعات حيوية وخاصة في الفسفاط‬
‫وتضررت ميزانية الدولة، فازدادت المصاعب المالية وارتفعت‬
‫المديونية وشحّت القروض. تأزمت العالقة بالنقابات وخاصة‬
‫باالتحاد العام التونسي للشغل في مناسبات عديدة، وتنامى العنف‬
‫اللفظي والمادي حتى بلغنا االغتيال السياسي. وتصاعدت المخاوف‬
‫األمنية بعد االكتشافات المتكررة لمخابئ لألسلحة في مناطق مختلفة‬
‫من البالد وتم استهداف عناصر من الجيش واألمن الوطنيين على‬
‫يد إرهابيين. تراكمت التجاوزات في مجال انتهاك حقوق اإلنسان،‬
‫فكان القمع البوليسي على طريقة النظام السابق في أكثر من مناسبة‬
‫وتأزمت العالقة بالمعارضة الديمقراطية داخل المجلس التأسيسي‬
‫خاصة، وكانت المواجهة مع المتشددين الدينيين على أكثر من صعيد،‬
‫ودخل عنصر الدم مجددا على الخط بعد الثورة. وتواترت أخبار عن‬
‫عودة التعذيب واستشهد مضربون عن الطعام بالسجون. كما تكرّرت‬
‫اإلخفاقات في السياسة الخارجية ولم تظهر مؤشرات ايجابية نوعية في‬
‫العالقة بالجيران. (4)‬
‫تأخر مسار العدالة االنتقالية، الذي تتحمل فيه «الترويكا»‬
‫المسؤولية الرئيسية، وتنامت أزمة الثقة بين الماسكين الجدد بالسلطة‬

‫وبين خصومهم، من أصدقائهم في المعارضة باألمس أو من المستفيدين‬
‫من الحكم السابق. يتبادل الفريقان تهم احتكار السلطة وعقلية الغنيمة‬
‫ونزعة الهيمنة غير المشروعة على الدولة من جهة، أو عدم التسليم‬
‫بنتائج االنتخابات الحرّة والتآمر على السلطة الشرعية وعرقلة عملها‬
‫ومحاولة االنقالب عليها، من جهة أخرى.‬
‫لعبت المعارضة أدوارا سلبية في عرقلة المسار التأسيسي وإرباك‬
‫الحكم الجديد واتخذت بعض أطرافها منحى انقالبيا أصال، ولم تتحمل‬
‫أطراف أخرى منها مسؤولياتها بالقدر الكافي في البناء، باعتبارها‬
‫شريكة في السلطة اعتمادا على تمثيليتها في المجلس الوطني التأسيسي‬
‫بصفته السلطة األصلية. لكن المعارضة في المحصّلة استطاعت أن‬
‫تخلق حالة من التوازن في المشهد السياسي، الذي يبدو ضروريا‬
‫للديمقراطية، وكان مفقودا في نتائج االنتخابات. كما نجحت المعارضة‬
‫ّ‬
‫في االستفادة من انحياز اإلعالم عموما ضد الحكم لتفرض عليه حالة‬
‫من الضغط والمراقبة االيجابية، وتجبره على المراجعة والتعديل في‬
‫مرّات عديدة وفي مواضيع مختلفة.‬
‫وإضافة إلى ما سبق، زادت األخطاء المنهجية في تمشي المجلس‬
‫الوطني التأسيسي الطين بلّة، وخاصة عدم تقيده بفترة زمنية، وضعف‬
‫ّ‬
‫أداء رئيسه وأعضائه، وحدة المناكفات السياسية داخله، وحصر مهمة‬
‫التأسيس تقريبا في الدستور الجديد، الذي حاول البعض حصر مهمة‬
‫ّ‬
‫المجلس فيه، والحال أن التأسيس كان يقتضي في الحد األدنى وفي‬
‫المقام األول تقييما عميقا لخيارات الحكم السابق وأخطائه الكبرى‬
‫والتوافق على مالمح مشروع وطني جديد يوجه السياسة الداخلية‬
‫والخارجية في مختلف المجاالت. كما يقتضي تسريع آلية وطنية متفق‬
‫عليه للمحاسبة والمصارحة والمصالحة الوطنية.‬
‫4 ـ مخاطر تتهدد المسار الثوري واالنتقال الديمقراطي‬
‫نجح هذا الجيل في الثورة على رموز االستبداد وأبعدهم من‬
‫رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه أجيال سابقة، وكسّر قاعدة‬
‫ّ‬
‫االستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إلى حد اآلن في إسقاط‬
‫النظام القديم وبناء ديمقراطية فعلية. وقد كشف التجربة المصرية‬
‫ّ‬
‫أن عوامل خارجية، إضافة إلى األسباب الداخلية المعلومة، ساهمت‬
‫في إجهاض الحلم العربي في الديمقراطية، باعتبارها شرط التنمية‬
‫الشاملة والنهضة الحضارية، وأن عناصر قديمة مؤثرة في الوضع‬
‫العربي، ما زالت تفعل فعلها بقوة. وليس الدور الخليجي المؤامراتي‬
‫الذي تأكد في ما حصل من انتكاسة بمصر، والتواطؤ الدولي المريب،‬
‫الذي تلكأ في إدانة االنقالب وما تاله من مجازر في حق المصريين‬
‫ّ‬
‫العزل، سوى برهانا على ذلك. لذلك يتعيّن على الثوريين المخلصين‬
‫أن ينجحوا في كشف المخاطر والمؤامرات الداخلية والخارجية، وأن‬
‫يعملوا بواقعية على تفكيك منظومة الفساد واالستبداد وحماية القرار‬
‫الوطني المستقل وااللتحام بالجماهير التي تظل يقظتها ومشاركتها في‬

‫« جنح هذا اجليل يف الثورة على رموز االستبداد وأبعدهم من رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه‬
‫أجيال سابقة، وكسر قاعدة االستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إىل حد اآلن يف إسقاط‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫النظام القديم وبناء دميقراطية فعلية. »‬

‫7‬
‫ُ‬
‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬
‫ّ‬
‫رفع التحديات أكبر تحصين للثورة ضد أعدائها. وأن يعمقوا النظر‬
‫ّ‬
‫أكثر في تعقيدات التغيير ومتطلباته، في ضوء المشهد العربي عموما‬
‫والتونسي خصوصا، لنستفيد من تجارب الماضي ونعي حقائق األمور‬
‫بعيدا عن العنتريات واألحالم الوردية والشعارات وتبسيط القضايا إلى‬
‫حد اإلسفاف. (5)‬
‫لن نكسب شيئا من تبادل التهم وتحميل المسؤولية لجهة واحدة‬
‫في تعثّر مسار الديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة. فالمسؤولية تظل‬
‫جماعية وإن اختلفت الدرجات والمقادير. للحاكمين الجدد مسؤولية‬
‫وللمعارضة ولمن هم خارج هذا التصنيف من سياسيين ونشطاء في‬
‫ّ‬
‫المجتمع المدني، وللقوى المضادة للثورة في الداخل والخارج تأثيرها.‬
‫ولعامة قوى الشعب مسؤولية أيضا. أخطأنا في الحكم وفي المعارضة‬
‫كما أسلفنا، ولكن لم نحسن عموما ترتيب األوليات ولم نظهر ما يكفي‬
‫من التضحية والصبر والتضامن في ظروف انتقالية صعبة. تحرّكت‬
‫المصالح الشخصية والفئوية والنعرات الجهوية والقبليّة. تراجع اإلقبال‬
‫عن العمل وأداء الواجب. بلغ عدد اإلضرابات واالعتصامات رقما‬
‫قياسيا. استجابت الحكومات المتعاقبة لبعض المطالب تحت الضغط‬
‫فأثقلت كاهل الدولة. لم يستأنف االقتصاد دورته العادية وصارت‬
‫ّ‬
‫المؤشرات السلبية للنمو وحدة األزمة السياسية وغموض المسار‬
‫عوامل مضاعفة لألزمة المالية ولمخاطر االنهيار االقتصادي. تراجع‬
‫منسوب الرغبة في المشاركة في الحياة العامة واالنخراط في األحزاب‬
‫والجمعيات وبتنا نسجل عزوفا متناميا لدى األغلبية من الشباب خاصة،‬
‫بما يؤشر على استمرار أزمة التنمية السياسية وضعف ثقافة المواطنة‬
‫والديمقراطية.‬
‫لقد جربنا التغيير بالبداية من األعلى واستهداف رأس السلطة‬
‫والتعويل على قوة الدولة أكثر من االهتمام بتطوير المجتمع، وكانت‬
‫ّ‬
‫النتائج مخيبة لآلمال على مدى عقود، فهل نعي الدرس ونعدل‬
‫البوصلة ونجرّب مداخل ثبت نجاحها ولو في ربوع أخرى؟ هل حان‬
‫الوقت لمراجعة عميقة لمناهج التغيير التي دأبنا عليها وروّجنا لها‬
‫طويال، وللفكر السياسي الذي قادنا في السابق؟ وهل نوفّق في بناء‬
‫الثقة ووضع معجم خاص باالنتقال بين الفاعلين السياسيين، وتطوير‬
‫ُ‬
‫الوفاقات عبر حوار وطني حقيقي، ووضع اآلليات الضامنة للتطبيق‬
‫والحامية للمكتسبات. فنتوخي المرحلية في تغيير الواقع نوعيا، دون‬
‫هزات ال يتطلبها وضعنا وال يتحملها. ونستحضر المشترك ونبني‬
‫ّ‬
‫عليه ونستبعد التنافي واإلقصاء واإلكراه ونحل التنافس السياسي‬
‫بدل العداوة. ونعتمد اإلصالح الذي ينطلق من مرتكزات إيجابية في‬
‫الواقع لمعالجة السلبيات، ويستبعد النقض واستئصال الخصم والبدائل‬
‫الشمولية. ونتوخى التدرج والمرحلية والواقعية ونبحث في الممكن‬
‫ونتفهّم تعقيدات الواقع وصعوباته، وال نقع تحت إغراءات الفرضيات‬
‫الذهنية القصوى. ونعمل بجاذبية الديمقراطية ونتحرك بروح التجديد‬
‫والتطوير ومراكمة االيجابيات واالستفادة من األخطاء والمراهنة‬
‫ُ‬

‫على المستقبل بتمكين الشباب وإعطائه األولوية في االهتمام والتكوين‬
‫وتحمل المسؤولية في القيادة واتخاذ القرارات.(6)‬
‫نتمنى أن تكون الذكرى الثالثة للثورة فرصة حقيقية للمراجعة‬
‫وتصحيح المسار، وإذ نسجل بارتياح التقدم الحاصل في الحوار‬
‫الوطني ونأمل أن تهيئ الوفاقات على مختلف المسارات إلنهاء ما تبقى‬
‫من المرحلة االنتقالية في إطار من الوفاق الوطني المفضي إلى تنظيم‬
‫انتخابات عاجلة في مناخ سياسي وأمني واجتماعي مناسب وبضمانات‬
‫تجعل مختلف المتنافسين فيها يقبلون بنتائجها، فإننا ننبّه إلى أن البحث‬
‫عن التوافق واالحتكام إلى شخصيات «مستقلة» ال يجب أن يكون على‬
‫حساب التنافس الديمقراطي والصراع حول تحقيق أهداف الثورة، وال‬
‫يؤدي إلى إضعاف األحزاب التي تضل قوام الحياة السياسية مهما‬
‫بلغت أخطاء السياسيين.‬
‫الهوامش‬
‫(1) مقال منشور بجريدة «مواطنون» العدد041، تونس، جانفي‬
‫1102 وبالتوازي في جريدة «القدس العربي».‬
‫(2) راجع على سبيل المثال مقالنا بعنوان «على هامش التجاذبات‬
‫حول أحداث 9 أفريل 2102: مبادرة سياسية لخفض التشنّج وبناء‬
‫الشرعية» منشور بجريدة المغرب (اليومية التونسية) بتاريخ 31 أفريل‬
‫2102. وكذلك مقالنا بعنوان «32 أكتوبر: شرعية ضرورية لكن‬
‫ليست فوق النقد» منشور بالعدد 41 من مجلة «اإلصالح» االلكترونية‬
‫بتاريخ 50 أكتوبر 2102. ومقالنا «بين حكم خائف ومعارضة يائسة:‬
‫متى يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 92 من نفس المجلة‬
‫بتاريخ 30 ماي 3102. (‪.)www.alislahmag.com‬‬
‫(3) مقال منشور بجريدة المغرب بتاريخ 31 أفريل 2102.‬
‫وبالتوازي في جريدة الضمير(اليومية التونسية).‬
‫(4) مقال منشـــور بجريــــدة «الغـــرب»، عــدد 915، ص71،‬
‫بتاريخ 8ماي 3102.‬
‫(5) راجع مقالنا بعنوان « يوميّات الزلزال السياسي بمصر:‬
‫ّ‬
‫وال بد للثورة أن تنتصر» منشور بالعدد 43 من مجلة «اإلصالح»‬
‫االلكترونية بتاريخ 21 جويلية 3102 ومنشور بالتوازي في جريدة‬
‫الضمير.‬
‫(6) راجع مقالنا بعنوان «بين حكم خائـف ومعارضة يائسة: متى‬
‫يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 92 من مجلة «اإلصالح»‬
‫االلكترونية بتاريخ 30 ماي 3102.‬
‫-------‬

‫* األمين العام لحزب اإلصالح والتنمية‬

‫‪goumani.med@gmail.com‬‬

‫« لقد جربنا التغيري بالبداية من األعلى واستهداف رأس السلطة والتعويل على قوة الدولة أكثر من‬
‫االهتمام بتطوير اجملتمع، وكانت النتائج خميبة لآلمال على مدى عقود، فهل نعي الدرس ونعدل‬
‫ّ‬
‫البوصلة وجنرب مداخل ثبت جناحها ولو يف ربوع أخرى؟»‬
‫ّ‬

‫8‬
‫مجرد رأي‬
‫ّ‬
‫الدستور التونسي والمنزلة بين المنزلتين‬
‫بقلم : عادل السمعلي*‬

‫لقد أثارت زيــادة فقرة في البند السادس للدستور التونسي الجديد‬
‫يتم بموجبها تحجير التكفير ردود أفعال غاضبة و عنيفة ومثيرة للجدل‬
‫من طرف أغلب مساندي احزاب الترويكا الحاكمة في حين استقبلت‬
‫العائلة اليسارية والحداثية هذه الزيادة باالنشراح والترحاب واعتبرتها‬
‫مكسبا من المكاسب التي يحق لهم االفتخار بها والتي حسب رأيهـــم‬
‫من شأنها أن تحد من العنف السياسي وظواهر التكفير التي انتشرت‬
‫بعد الثورة .‬
‫إال أن المتأمل في البنود االولى من الدستور بما في ذلك البند‬
‫السادس مثار الجدل سرعان ما يتفطن إلى أن المعركة بين االسالميين‬
‫وبين العلمانيين في تونس ما هي إال معركة طواحين الهواء بامتياز‬
‫فالدستور التونسي في نسخته هذه مؤكد أنه لن يرضي االسالميين‬
‫ولكنه من الثابت أيضا أنه لن يشفي غليل العلمانيين باعتبار أنه‬
‫دستور (هجين) يحاول أن يرضي كل األطراف المشاركة في صياغته‬
‫حتى ولو كان ذلك على حساب منطقه الداخلي وانسجام رؤيته‬
‫لمشروع مجتمعي تونسي مستقبلي فهو يضم النقيض ونقيضه ويجمع‬
‫بين الرؤى واألفكار التي ال يمكن أن تجتمع في رؤية واحدة منسجمة‬
‫ومتناغمة ويعيدنا الى مربع الصراع االسالمي العلماني وكل طرف‬
‫يؤول مضامينه حسب خلفيته الفكرية و رؤيته االيديولوجية وأنه‬
‫من المؤكد عند الدخول في تفاصيل هذا الدستور وتطبيقاته العملية‬
‫ستتداخل التفسيرات والتأويالت وتتباين يمينا ويسارا ....‬
‫إن شعار التوافق الذي رفع عند كتابة الدستور سينجر عنه دستور‬
‫ينظر لرؤية مجتمعية مليئة بالتناقض باعتبار أن الرغبة الجامحــة‬
‫في إرضاء كل العائالت الفكرية واإليديولوجية سيترتب عليها فصول‬
‫قانونية أقرب منها إلى تبني المنزلة بين المنزلتين فال يمكن وصفه بأنه‬
‫دستور اسالمي كما ال يمكن أي يوصف بأنه علماني مما يفتح المجال‬
‫واسعا للتجاذب السياسي المرضي البعيد كل البعد عن استحقاقات ثورة‬
‫الحرية والكرامة .‬
‫إن تضمين (تحجير التكفير) وما صحبه من هرج ومرج سياسي‬
‫وإعالمي يؤكد أن النخب التونسية مازالت تراوح مكانها ولم تتخلص‬
‫بعد من عقدها االيديولوجية و «فانتازماتها» الفكرية ولم تصل بعد‬
‫لدرجة الوعي التي تمكنها من فهم وإستيعاب أن الدستور ليس مطلوبا‬
‫منه أن يكون دستورا إيديولوجيا يحقق انتصارا لهذا الطرف أو‬
‫ذلك بقدر ما يجب أن يكون عقدا اجتماعيا وثيقا بين كل التونسيين‬
‫مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية والسياسية وأن التجاذب مجاله الخطط‬
‫والبرامج السياسية واالقتصادية واالجتماعية وليس مجاله الدستور.‬
‫إن لعبة االستقطاب الثنائي (إسالمي/علماني) كما كانت تسمى في‬
‫ّ‬
‫أواخر الثمانينات تطل برأسها من جديد في جلسات التأسيسي وفي‬

‫مناقشة بنود الدستور ويبدو أن بعض من عايشها وأكتوى بنارها سابقا‬
‫لم يستفد من عبر التاريخ ويكفي هنا أن أشير أنها نفس اللعبة التي لعبها‬
‫بن علي ليستفرد بالسّلطة ويقضي على الجميع فتضرّر منها االسالمي‬
‫أيّما ضرر ولم يستفد منها العلماني بتاتا إالّ ما ندر من االنتهازيين ..‬
‫إن محاولة إحياء نفس االشكاليات النظريّة التي طرحت في نهاية‬
‫ّ‬
‫الثمانينات والدخول في جداالت بيزنطيّة ال تُسمن وال تُغني من جوع‬
‫هدفها اإلشغال المنهجي وإلهاء الرأي العام بما ال يعول عليه وما ال‬
‫فائدة تنجر عنه وهو تقريبا نفس الجدل النظري العقيم الذي انشغلت‬
‫به النخب أواخر الثمانينات قبل أن يهرب الجمل بما حمل ويستفرد بن‬
‫علي طويال بالسلطة ويبدو أن النخب لم تستفد من التجربة السابقة ولم‬
‫تعدل بوصلتها مما يعرضها لخطر السقوط مرة أخرى في الفخ الذي‬
‫نصب لها في أواخر الثمانينات وكلفها عشرين سنة من الديكتاتورية‬
‫والظلم واالستبداد ...‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫إنني أرى أن هذا المنحى القديم والمتجدد الذي أدى إلى إدراج‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫(تحجير التكفير) في الدستور سيضر ويرجع بالوبال شعبيّا وإنتخابيّا‬
‫لمن أعتقد أنّه انتصر على خصومه السياسييّن بفرض إدراجه في‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الدستور ألن التكفير بكل بساطة مبحث فقهي وعقائدي، ومجرد إيراد‬
‫المصطلح في الدستور سيفتح باب البالء على (الكفّار المفترضيـن)‬
‫و(التكفيريين المفترضين) على حد سواء .... ألن تفسير المصطلح في‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫حد ذاته وتحديد مفهومه سيمر حتما عبر مباحث دينيّة وفقهيّة وتاريخيّة‬
‫بداية من الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا وسيحتاج المشرّع لالستئناس بكل‬
‫هذه المباحث في هذا الشأن وترجيح معنى يتعارف عليه للمفهوم أمام‬
‫معاني أخرى... وفي هته الحالة سيمثّل ورطة حقيقية أمام من دفع‬
‫إلضافة هذه الفقرة في البند السادس من الدستور.‬
‫ّ‬
‫إن الدستور الذي يحتاجه ويستحقّه التونسيون هو الدستور الذي‬
‫يسطّر الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة في كنف األمن واالستقرار‬
‫ّ‬
‫والنهوض االقتصادي واالجتماعي. وأن أي حديث أو نقاش وطني‬
‫خارج مطالب المحاسبة وكشف ملفات الفساد وإصالح القضاء‬
‫واإلعالم واألمن وإقصاء المنظومة القديمة، وإن أي جدال خارج‬
‫تحقيق العدالة االنتقاليّة وضمان العدالة االجتماعيّة بين الجهات‬
‫والتّقسيم العادل للثّروات وتكريس سيادة القرار الوطني هو حديث‬
‫هراء وكالم دون محتوى لمحاولة تجريف استحقاقات الثّورة نحو‬
‫معارك جانبيّة ال جدوى منها.‬
‫--------------------‬‫* كاتب تونسي‬
‫‪Samaaliadel@yahoo.fr‬‬

‫ّ‬
‫ّ‬
‫«إن الدستور الذي حيتاجه ويستحقه التونسيون هو الدستور الذي يسطر الطريق حنو حتقيق‬
‫ّ‬
‫أهداف الثورة يف كنف األمن واالستقرار والنهوض االقتصادي واالجتماعي »‬

‫9‬
‫في الصميم‬
‫األمة في حاجة إلى «رجال مبادئ»‬
‫وليس إلى حوار «الطرش»‬
‫بقلم : د.مصباح الشيباني*‬
‫ّ‬
‫تمر أمتنــا العربية واإلسالميـــة بمرحلة تاريخية صعبــة، حيث‬
‫يحاصرها أعداؤها من جميع االتجاهات والمواقع ، وأصبح لصراعها‬
‫مع األعداء في الداخل والخارج أبعادا جديدة، ومضامين سياسية‬
‫وأخالقية مضافة إلى مضامين القضايا والمشاكل األصلية من تخلف‬
‫وتجزئة واستعمار..الخ. فتدنت معه المشاعر اإلنسانية والقيم الوطنية‬
‫إلى درجة أن تحول معها من كانوا عقالء إلى مخبولين، ومن كانوا‬
‫أمناء إلى لصوص وتجار في السياسة والدين. فباسم «الحرية» يتم‬
‫تدمير كيان األمة، وباسم «حقوق اإلنسان» يتم تفكيك الدول وإبادة‬
‫الشعوب، وباسم «الديمقراطية» يتم االستنجاد بالمحتل. لقد كان‬
‫السبب المباشر لهذه الثورة هو واقع االستبداد والظَلم الذي هيمن على‬
‫المشهد المجتمعي العربي. وكان الهدف األول من االحتجاجات هو‬
‫بناء الديمقراطية واالعتراف بالمواطنة العربية وعودة سيادة الدولة‬
‫وتحقيق التنمية االقتصادية واالجتماعية..الخ. ومازالت أهدافها الكبرى‬
‫ّ‬
‫هي استعادة روح األمة والدفاع عن هويتها العربية واإلسالمية وعن‬
‫ّ‬
‫قيمها الثقافية والدينية التي تعرّضت إلى التهديم المنظّ‬
‫ّ‬
‫م من قبل أعداء‬
‫ّ‬
‫األمة في الداخل والخارج معا.‬
‫هناك مشاكل وتحديات أخالقية وثقافية وسياسية كبيرة لم نعشها في‬
‫الماضي. والتحدي الجديد يتعلق أساسا بكيفية إنتاج مجتمعنا العربي‬
‫نفسه بنفسه، وكيفية تغيير آليات الفعل السياسي في الدولة. فالمشهد‬
‫السياسي التونسي والعربي عموما، يطرح علينا السّؤال المنهجي‬
‫التالي: وفق أية معايير يجب أن نشكل تجربتنا السّياسية الجديدة؟ أي‬
‫هل نحن نعيش مرحلة القطيعة مع ماضي استبدادي مازال قريبا منا أم‬
‫أننا نعيد إنتاجه ولكن بلبوس ثوري ناعم؟‬
‫فمن خالل فهمنا للثقافة السّياسية الخاصة بمجتمع ما ومن خالل‬
‫إرثه المعرفي والقيمي نستطيع أن نعرف كيف تتشكل السّياسات في‬
‫هذا المجتمع وكيف تنتقل من جيل إلى آخر. وكل أزمة حادة تشمل‬
‫الحراك السياسي واالجتماعي والثقافي تبدو أوال وقبل كل شيء‬
‫ّ‬
‫أزمة حوار بين السّياسيين وأزمة في تأسيس ثقافة االختالف والتعدد‬
‫والديمقراطية. إن االفتراء على هذه القيم والمبادئ اإلنسانية النبيلة،‬
‫واستشراء ازدواجية المعايير في التعامل معها من قبل الفاعلين‬
‫السياسيين (حكومات ومعارضات) في الوطن العربي أدى إلى مزيد‬
‫تعميق هذه المشاكل واالبتعاد عن حل قضايانا االستراتيجية، وبات‬
‫ّ‬
‫األمر سافرا ومبتذال إلى درجة غير معقولة وغير مقبولة وتأكد لنا‬

‫اليوم أن محنة األمة في محنة بعض نخبها الفكرية وسياسييها أي في‬
‫ّ‬
‫غياب «رجال المبادئ».‬
‫ّ‬
‫نعتقد أن جميع الفاعلين السّياسييـــن واإلعالمييــن والمثقفيـــن‬
‫لم يتحملوا بعد مسؤولياتهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي‬
‫ّ‬
‫التونسي وتخليصه من التشوّهات األخالقية والقيمية السّابقة والتي‬
‫مازالت تطبع ممارساتهم ومواقفهم وخطاباتهم إلى اليــــوم. فهؤالء‬
‫الفاعلون يمثلون قنوات الثقافة السياسية في المجتمع. والمناخ‬
‫ّ‬
‫السياسي الجديد «المتحرّر» الذي حرّكتــــه الثورة لم يخفف من حدة‬
‫الصراعات السياسية واأليديولوجية والنزاعات االجتماعيــــة والعنف‬
‫اإلعالمــــي في مجتمعنـــا التونســـي بـــل عمقهـــا أكثر من جديد‬
‫في مجتمعنـــا . وهذه الحالـــــة من «الفتنـــة السياسيــــة» ليست إال‬
‫إحدى تجليات ضعـــف األسس التي قام عليها «مجتمع النخبة» وتأكد‬
‫ّ‬
‫أن هذه النخبة هي سبب نكبة مجتمعنا العربي في مختلف الحقـــول‬
‫ّ‬
‫السياسية والثقافية واإلعالمية ألنها تفقد الحد األدنى من المبدئيـــة في‬
‫ّ‬
‫مقارباتها السياسية التي تدعي أنها تناضل من أجلها. والمجتمـــع الذي‬
‫يفتقد فيه قادته السياسيــــون القدرة على إعمال العقـــل وتطويـــر‬
‫طرق التعامــــل في ما بينهم في إطار الوحدة والمشاركة السياسية‬
‫واالنخراط الفعلي وتحمل المسؤولية في إدارة الشأن العام، سوف يبقى‬
‫ّ‬
‫وضعه االجتماعي العام ميزته القصور الذّ‬
‫اتي وغياب الوعي السّياسي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫والتفكك المؤسّساتــــي للدولـــة وللمجتمـــع وقد يعود في أية لحظة‬
‫إلى الحالة البربرية .‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫إن التعدد واالختالف بين الناس ليس حقّا قانونيا فقط، بل هو سنّة‬
‫ُ‬
‫وثقافة تحتاج إلى دربة حتى تتحول إلى ممارسة يومية في المجتمع.‬
‫وحتى تصبح نمطا من السّلـــــوك أو نموذجـــا يقتدي به جميع‬
‫األفـــراد وفي مختلف المواقــــع. وهذه الثقافـــة ال يمكن أن تتأسّـــــس‬
‫إال في مناخ سياسي وثقافي تعددي في طرق التفكير وفـــي الوعي.‬
‫ّ‬
‫أي أن ثقافة االختالف ال تمثل ظاهرة سياسية فقــــط، بل هي أيضا‬
‫ّ‬
‫ظاهرة اجتماعيـــة وثقافيـــة ورمزية. أي أن مستـــــوى مشاركــــة‬
‫المواطنين في الحراك السّياســــي مثال، يتأثر بعــــدد من المتغيرات‬
‫االجتماعية والثقافية الخاصة بالمجتمع الذي ينتمـــون إليـــه. لذلك،‬
‫فهي مرتبطة بنسق التنشئة االجتماعية باعتبارها عملية يتدرب عليها‬
‫الفرد طوال حياته وتمكنه من استبطان القيم واالنخراط في العمل‬
‫الجماعي لخدمة الشأن العام. وهذه التنشئة تنطلق من المحيط العائلي‬

‫ّ‬
‫« نعتقد أن مجيع الفاعلني السياسيني واإلعالميني واملثقفني مل يتحملوا بعد مسؤولياتهم يف إعادة‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫تشكيل املشهد السياسي التونسي وختليصه من التشوهات األخالقية والقيمية السابقة واليت‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫مازالت تطبع ممارساتهم ومواقفهم وخطاباتهم إىل اليوم . »‬

‫01‬
‫األمة في حاجة إلى «رجال مبادئ»‬
‫وليس إلى حوار «الطرش»‬

‫ثم التعليمي والمجتمعي. وبالتّالي، فالتنشئة السّياسية للفرد ليست‬
‫عملية شكلية ومناسباتية، وإنّما هي عبارة عن قيم ومشاعر واتجاهات‬
‫يستبطنها المواطن وتوجه سلوكه للمشاركة المسؤولة في إطار نظام‬
‫ديمقراطي.‬
‫ّ‬
‫ومن الالّفت في تونس مثال، أن مختلف البرامج السّياسية‬
‫والسّجاالت الفكرية التي تدور في رحاب الوسائط الثقافية واإلعالمية‬
‫تكشف لنا كل يوم عن مستوى رهيب من التخلف من حيث اللّغة‬
‫السوقية المستخدمة ورفض االستماع إلى اآلخر ومنعه من التعبير عن‬
‫رأيه. إذ ال تساعد مختلف البرامج السّياسية في تكوين ثقافة سياسية‬
‫متنورة بمقدار تساعد على تأجيج الصراعات وتعميق النّزاعات‬
‫السياسية واأليديولوجية. وال يحتاج أي متابع مشغول أو مراقب مهتم‬
‫بقضايا األمة إلى مقدمات من أي نوع حتى يقول أنّنا في حاجة إلى‬
‫إنشاء خطاب ثقافي وسياسي مختلف حتى ال نتأخر أو نتوه في حركة‬
‫التاريخ. وهذه الحالة من العطالة التي تخترق الواقع العربي هي تعبير‬
‫عن أزمة بنيوية وحضارية شاملة وعميقة جدا ال يمكن أن تعالج في‬
‫سنوات بل تحتاج إلى عقود من الزمن. فلم تكن منجزات ثالث سنوات‬
‫ّ‬
‫من «الحراك الثوري» سوى انتكاسة وردة حقيقية لما حققته األمة‬
‫على مدى أكثر من أربعة عشرة قرنا، وبدال من أن توجّه «النخبة»‬
‫بوصلتها نحو تغيير وضع الجماهير العربية واإلسالمية المنتفضة‬
‫من المحيط إلى الخليج استخدمت من قبل أعداء الشعب إلعادة إنتاج‬
‫مناخ عربي مضطرب ومنقسم داخليا، وضع عربي تابع للغرب‬
‫االستعماري وللصهيونية.‬
‫لقد كانت التجربة السياسية خالل الثالث سنوات الماضية صدمة‬
‫أليمة للمواطن العربي، وقللت من رغبته في متابعة المسائل السياسية‬
‫أو المشاركة في الحياة السياسية، سواء كان علنا أو ضمنا. فالخطاب‬
‫السياسي المتداول منذ األيام األولى من قيام الحراك الثوري بدا وكأنه‬
‫يتجه نحو إغراق المجتمع في «ثقافة اإلقصاء» من جديد. ومعرفة‬
‫أزمة هذا الخطاب في بعده األنثربولوجي يؤدي بنا إلى فهم أفضل‬

‫للسياسيين ونخبنا الفكرية. وطريقة معالجة الفاعلين السياسيين للمسائل‬
‫وكيفية إدارة حواراتهم وتفاعالتهم السياسية تعبر كلها عن وجود أزمة‬
‫في ثقافتنا السياسية وأزمة في «أسلوب حياتنا» نتيجة غلبة ذهنية‬
‫اإلقصاء وهيمنة «حوار الطرش» على المشهد السّياسي التونسي‬
‫والعربي عموما.‬
‫لم تكن أهداف الصراعات السياسية بين ما تسمى بـالمعارضة‬
‫والحكومات االنتقالية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، من‬
‫أجل إعالء شأن دين أو إستقالل وطن، أو من أجل دفع المظالم عن‬
‫الناس وتفكيك منظومة االستبداد، أو من أجل نصرة قضايا العرب‬
‫والمسلمين، وإنما كانت جميعها ذات مقاصد وغايات التناحر‬
‫والتقاتل طمعا في المال والملك، فسقط جميعهم في ثقافة التخريب‬
‫والفتنة السياسية. وقد بلغت رداءة المشهد السياسي في هذه األقطار‬
‫إلى حد دعوة بعضهم إلى التحالف مع األعداء التاريخيين لألمة من‬
‫أجل االستفراد بـ «غنيمة الثورة» وأصبحت الفتنة بالمفرق والموت‬
‫بالجملة، فحسبنا هللا ونعم الوكيل فيهم جميعا؟‬
‫ّ‬
‫نعتقد أن قراءة «التجربة الثورية» العربية الرّاهنة بشكل علمي‬
‫وموضوعي يمثّ‬
‫ل الخطوة األولى لمعرفة كيفية التعامل مع تحدياتها‬
‫الداخلية وأخطارها الخارجية معا. ويتوقف نجاح هذا المشروع على‬
‫مدى تجذير الوعي الثوري وطنيا وقوميا، وإدراك الشعب العربي‬
‫ّ‬
‫طبيعة أعدائه الحقيقيين ومواقعهم المختلفة، وفك االرتباط بالغرب‬
‫ّ‬
‫االستعماري حتى يعطي للجديد الثوري إمكانية النجاح، ألن الثورات‬
‫ال تصنع ويستحيل أن تنجح بأسلوب االحتماء باآلخر اإلستعماري‬
‫الذي ال يريد إال حماية مصالحه فقط.‬
‫فغالبا ما نقرأ بعض الكتابات والقراءات التي تهمل جانبا مهما‬
‫ّ‬
‫من طبيعة الحراك «الثوري» الدائر اليوم في الوطن العربي وعالقته‬
‫ّ‬
‫بالصراعات اإلقليمية والدولية عموما. إن هدف هذه الثورات ليس‬
‫اإلطاحة بالحكام العرب الطغاة والمستبدين فقط، مثلما يحاول البعض‬
‫من العرب والغربيين إيهامنا به، ولن يكون ذلك منتهى المعركة طالما‬
‫بقيت األسباب الحقيقية لالستبداد والتخلف والفقر واألمية قائمة. كما‬
‫أنَ الدراسة الموضوعية والعلمية االستشرافية تقتضي أن ننظر إلي‬
‫هذه الثورات باعتبارها حركات وانتفاضات جماهيرية ديناميكية ـ سلبا‬
‫وإيجاباـ حتى ال نضعها في إطار مغلق وجامد قد يفقدها عالقاتها‬
‫ّ‬
‫التاريخية وتفاعالتها الداخلية والخارجية. فالمناخ العربي والدولي‬
‫الرّاهن ال يساعد على نجاح هذه الثورة بقدر ما يساعد على وأدها‬
‫وإفشالها.‬
‫-------------------‬‫* أستاذ وباحث في علم االجتماع‬
‫‪abounour05@yahoo.fr‬‬

‫« بدال من أن توجه «النخبة» بوصلتها حنو تغيري وضع اجلماهري العربية واإلسالمية املنتفضة من احمليط‬
‫ّ‬
‫إىل اخلليج استخدمت من قبل أعداء الشعب إلعادة إنتاج مناخ عربي مضطرب ومنقسم داخليا،‬
‫وضع عربي تابع للغرب االستعماري وللصهيونية. »‬

‫11‬
‫حوار حول الثورة‬
‫ّ‬
‫في السؤال القديم المتجدد:‬
‫الثورة العربية بين الممكن والمستحيل‬
‫ّ‬
‫ّّ‬
‫حوار مع: الدكتور األزهر الزناد، واألستاذ عماد محنان(*)‬
‫تنسيق الحوار : د. محمد الحاج سالم*‬
‫خطاب الثورة والعقالنيّة‬
‫ّ‬
‫محمد الحاج سالم: في ظل االلتباسات المهيمنة على الخطاب‬
‫ّ‬
‫«الثّوري» العربي المعاصر، هل يبدو لكم ذلك الخطاب عقالنيّا ً ؟‬
‫وما هي مظاهر العقالنيّة فيه ؟‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ األزهر الزنّاد: للخطاب الثّوري ثالث مراحل - في ما‬‫أرى- تناسب درجةُ‬
‫العقالنيّة فيه ترتيب المرحلة: ما قبل الثورة‬
‫َ‬
‫وزمن الثورة وما بعدها. فما قبلها خطاب إعداد للثورة يوصّف‬
‫ّ‬
‫الواقع المتردي وفيه نسبة كبيرة من العقالنيّة، وفي زمنها خطاب‬
‫استنهاضي حماسي قد تتقلّ‬
‫ص فيه العقالنيّة وأما خطاب ما بعد‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الثّورة فال مناص من أن يكون عقالنيّا ً بما يرسم من برامج مستقبليّة.‬
‫وهذه المراحل في الثورات العربيّة متداخلة متزامنة بحكم تتابعها‬
‫فتزامنها فاختالفها في المراحل المذكورة باالستتباع. فأسبقها‬
‫الثورة التونسيّة، وفيها يلمس النّاظر زيادة في درجة العقالنيّة في‬
‫الخطاب بحكم مقتضيات المرحلة: تنظيم االنتخابات، مهام المجلس‬
‫ّ‬
‫التّأسيسي، برامج األحزاب ومضامينها، التّحاليل الفكريّة السياسيّة‬
‫ّ‬
‫بما في الواحد منها من تصوّر(ات) للمستقبل، إلخ. وفي العموم،‬
‫ّ‬
‫أرى أن في الخطاب العربي صوتين على األقلّ: عقالنيّا ً وغير‬
‫ّ‬

‫عقالني، وكالهما يعد بمشروع اجتماعي وللواحد منهما أنصار‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ومعارضون على مستويين وطني وعالمي، وقد يخفت صوت‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ويرتفع آخر، وقد تتبلور عقالنيّة توافقيّة في نهاية المطاف.‬
‫ عماد محنان: خالفيّا ً يكون جواب مسألة «عقالنيّة الخطاب‬‫الثّوري العربي الرّاهن» كخالفيّة مفهوم العقالنيّة وبقدرها. وهذا‬
‫فضالً عن سياقيّة مفهوم الخطاب نفسه. ولكون المعاصرة حجابا،‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫فإن طرح المسألة راهنا ً ال يبدو مراعيا ً للمسافة الزمنيّة الضّروريّة‬
‫ُ‬
‫للرّؤية. لذا يكون بحث المسألة تقصّداً لثمار غير ناضجة، فيؤول‬
‫الجني جناية بما هو هتك للبستان وفتك بعافية اإلنسان. من جهة‬
‫ّ‬
‫الفهم الفلسفي يتسنّى لنا الكالم على عقالنيّة «الخطاب الثّوري‬
‫العربي» باتّخاذ مطيّة التّمييز بين تصوّريْن لمصدر المعرفة :‬
‫العقل والتّجربة. وال يبدو في الطّابع المفاجيء لثورة تونس فاتحة‬
‫ثورات ما يُعرف بالرّبيع العربي أنّه بوسع أيّة تمثّالت عقليّة‬
‫ْ‬
‫خالصة أن تستبق هذه الثّورة أو أن تستشرف مآالتها. بل لعلّه‬
‫كان في قراءة الحراك المجتمعي استثماراً لمحصّلة معرفة تجريبيّة‬
‫فيزيائيّة تجسّمت في شعارات مستقاة من السّياق المعرفي التّجريبي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الفيزيائي شأن مقولة «كل فعل يقابله رد فعل...» و مقولة «الكبت‬
‫ّ‬
‫يولّد االنفجار». ولئن لم يكن ما أسميناه بـ «الخطاب الثّوري‬
‫ّ‬
‫العربي» لراهنيّته شاهداً بمقوّماته فلعلّه يبدو واعداً بمقدماته.‬
‫***‬
‫ّ‬
‫محمد الحاج سالم: هل تعني بذلك نفي أي دور للنّخب ؟‬
‫ّ‬
‫ عماد محنان: الثّورة بما هي أداة التّغيير التّ‬‫اريخي كانت أكبر‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫هموم الفلسفة المعاصرة. بل لقد أدى الشاغل التّغييري إلى قطيعة‬
‫بين الفلسفة ومطلبها التّأملي العالق بها بما هي «نظر في الوجود».‬
‫ّ‬
‫وتُعبّر عن هذه القطيعة نشأة ما يصطلح عليه بفلسفة الممارسة‬
‫أو «البراكسيس». ولما كانت النّخب العربيّة التي وجّهت الثّورة‬
‫ّ‬
‫وأطّرتها حاملة لرؤية هذه الفلسفة لإلنسان والتّ‬
‫اريخ سواء بالمعرفة‬
‫ّ‬
‫أو بالتّبنّي فإن الجماهير نفسها انخرطت في هذه الرّؤية أمالً في‬
‫خالص ممكن مما عكس تسليما ً للمثقّ‬
‫ف والعالم بزمام التّأسيس‬
‫ّ‬
‫المجتمعي.‬

‫ّ‬
‫«من جهة الفهم الفلسفي يتسنى لنا الكالم على عقالنية «اخلطاب الثوري العربي» باتخّاذ‬
‫ّ ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ ّ‬
‫مطية التمييز بني تصورين ملصدر املعرفة : العقل والتجربة. »‬
‫ّ ْ‬

‫21‬
‫ّ‬
‫في السؤال القديم المتجدد:‬
‫الثورة العربية بين الممكن والمستحيل‬
‫ّ‬

‫ّ‬
‫غير أن جدل العالقة بين المثقّف/السّياسي والجماهير ال يسمح‬
‫ّ‬
‫بوالدة خطاب ثوري عقالني أو غير عقالني إالّ في االعتباريْن‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫اإليديولوجي والقطاعي. فمن جهة اإليديولوجيا تلوح في األفق‬
‫السّياسي العربي هيمنة النّزوع اإلحيائي الذي يصبو إلى استرجاع‬
‫ّ‬
‫الماضي. وهو ما فعّل سؤال الهويّة والجذور وغلّب حضور المكوّن‬
‫ّ‬
‫العقدي الوثوقي. وأما من جهة القطاعيّة فإن الخطاب الثّوري مأخوذ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫بضرورة التّبسيط إلى حد التّسطيح مراعاة لتردي مراتب قطاعات‬
‫ّ‬
‫واسعة من جماهير الشعب العربي في سلّم التّعليم والثّقافة.‬
‫الثورة والتكنولوجيا الرقميّة‬
‫محمد الحاج سالم: نعم، لكن بقطع النظر عن المسارات الممكنة‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫للثورة، فإن الثابت أن التّكنولوجيا الرّقميّة لعبت دوراً أساسيّا ً في تحديد‬
‫ّ‬
‫المسار الثّوري العربي. هل ترون أن دورها كان في تثوير الطاقات‬
‫الشعبيّة أم اقتصر فحسب على استنساخ الثورات؟‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ األزهر الزنّاد: لكل ثورة أدواتها حسب العصور، والمهم أن ال‬‫ّ‬
‫قيام لثورة ما لم تتوفّ‬
‫ر جملة من العوامل المتظافرة يعيشها جميع النّاس‬
‫أو جلّهم، وهي في جوهرها فقر وشعور بالظّلم وإحباط وانعدام الثّقة في‬
‫الحاكم فيكون البحث عن البديل. وقد ينشأ البديل نشوءاً جماعيّا ً عفويّا ً‬
‫ّ‬
‫ثم يتبلور في رؤية متكاملة يتوحّد فيها صنّاع الثّورة: أي أبناء الشعب‬
‫ّ‬
‫شيبهم وشبابهم. وإذ كانت التكنولوجيا الرّقميّة متاحة استخدموها. فهي‬
‫أداة افتراضيّة ولكنّها ذات نتائج تتحقّق في الميدان تسهّل التّواصل‬
‫فالتّنظيم وتنسيق الفعل وسرعته في الميدان رغم اتّساعه، فتضمن‬
‫توحيد الطّاقات وتوجيهها توجيها ً ناجعا ً وهذا ما شهدناه، وهنا كانت‬
‫مزيّة التّكنولوجيا الرّقميّة. وإذ كانت هذه التّكنولوجيا منتشرة بين‬
‫شعوب متشابهة في ظروف مهيّئة لقيام الثورة اعتُمدت فيها جميعا ً‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫وبنفس األسلوب تقريبا. وهذا الشبه لم تفرضه أدوات التّواصل وإنّما‬
‫فرضه شبه في واقع بائس خلقته أنظمة متشابهة انجرّ‬
‫عنه شبه في‬
‫ّ‬
‫الحلول المنشودة وفي السّبيل إلى تحقيقها. ولعل للتّكنولوجيا الرّقميّة‬

‫دوراً في البناء بعد قيام الثّورة. فهي، بهذا المعنى،لم تستكمل بعد.‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ عماد محنان: دشنت العشريّة األخيرة من القرن العشرين بحق‬‫ّ‬
‫موت الجمركي وحارس الحدود. فلم تقف أوروبا الجديدة المتجددة‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫عند عتبة رأب الصّدع األلماني وال عند فك أسر األقلّيات المسلمة في‬
‫البلقان من تغوّل القوميّات المتغلّبة وعنجهيّتها، بل لقد أسّست كيانها‬
‫األوروبي الموحّد بحدود مفتوحة. وقد خطا مشروع العولمة األمريكي‬
‫خطوته العمالقة بإسدال نسيج شبكة العنكبوت التّواصليّة على مساحة‬
‫العالم. وصارت المعلومة هي الملِكة في خليّة النّحل البشري العالمي.‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وكذبت نوايا اقتصاد السّوق المحمومة هواجس المتخوّفين من أن‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫ّ‬
‫الغرب يريد لنا أن نظل رهن الحبس الحضاري البارد وأن نبقى على‬
‫حال تخلّفنا وجمودنا. وذلك أن اكتساح األسواق يفترض تأهيلها معرفيّا ً‬
‫ّ‬
‫وتقنيّا ً ألجل تسهيل التّواصل مع المصنّع والتّعامل مع المصنوع.‬
‫ُ‬
‫لذا كانت التّحفة المعلوماتيّة أولى منحوتات اليد األجنبيّة في بالدنا‬
‫بالتّمويل «المشروط طبعا» والضّغط لنشر ثقافتها وتعميمها على‬
‫مستويات التّعليم جنبا ً إلى جنب مع إشاعة اإلنقليزيّة «االستهالكيّة»‬
‫في التّعليم الجامعي وما دونه.‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لقد وجد الشباب العربي المأزوم في فضاء األنترنت المفتوح ــ‬
‫وإن بتعبيرنا األثيل ـ مبكى لليتامى وداراً للنّدامى : نشطت عالقات‬
‫ّ‬
‫التّواصل مع األوساط الشبابيّة األوروبيّة واألمريكيّة في صلب‬
‫مقايضة ـ بيْنمجتمعيّةـ مقنّعة تُ‬
‫بادل بُعبع الفقر وحلم الهجرة في العالم‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫العربي بهاجس التّصحّر الشبابي وشبح التّهرّم السكاني ونقص اليد‬
‫العاملة البخسة خارج أطر الضّمانات الحقوقيّة في المجتمعات الغربيّة.‬
‫ووجدت الجماعات الحقوقيّة والمثقّفة طريقا ً سالكة إلى ضمير الرّأي‬
‫ّ‬
‫العام العالمي ومؤسّساته لفضح رياء الدكتاتوريّة وتعرية جرائمها.‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتدعمت ثقافة التّواصل الرّقمي في ظل هذا الفضاء «الثّوري»‬
‫ّ‬
‫من جهة سرعة توصيل المعلومة ومدى انتشارها فتشكلت لغة برقيّة‬
‫ّ‬
‫قائمة على الرّموز والمختصرات واألرقام. وقد أدى هذا الفضاء ولغة‬
‫ّ‬
‫التّواصل فيه دوراً بالغ األهميّة في توسيع الهوّة بين فئة الشباب وباقي‬
‫فئات المجتمع العربي. وولّد ذلك إحساسا ً بامتالك رؤية مغايرة للممكن‬
‫المجتمعي ومؤهّالت تقنيّة وتواصليّة هي مفتاح األزمة وأداة التّغيير.‬
‫هكذا كان للثّورة أن انطلقت في تونس ثم مصر من حناجر جيل شابّ‬
‫ّ‬
‫لطالما سّفهه أساتذته ومعلّموه وقنتوا منه، ولم يروا إالّ قطاعا ً‬
‫منه‬
‫ّ‬
‫غرق في الكحوليّة واحترف الغياب أو تلهّى بمواقع الدردشة وقنوات‬
‫اإلباحيّة.‬
‫***‬
‫ّ‬
‫محمد الحاج سالم: تقصد أن الثورة كانت غير متوقّعة بما أنّها‬
‫ّ‬
‫كانت غير تقليديّة في أدواتها ؟‬
‫ّ‬
‫ عماد محنان: نعم، فقد تسلّح الشباب الثّائر بلغة التّواصل التي‬‫تخصّه دون سواه. إنّها لغة تتّسم بكل سمات الثّ‬
‫ّ‬
‫ورة. لغة مختصرة‬

‫ّ‬
‫ّ‬
‫« لكل ثورة أدواتها حسب العصور، واملهم أن ال قيام لثورة ما مل تتوفر مجلة من العوامل املتظافرة‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يعيشها مجيع الناس أو جلهم، وهي يف جوهرها فقر وشعور بالظلم وإحباط وانعدام الثقة يف‬
‫احلاكم فيكون البحث عن البديل. »‬

‫31‬
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح
الاصلاح

Contenu connexe

En vedette

بوكلت حروف اللغة العربية
بوكلت حروف اللغة العربيةبوكلت حروف اللغة العربية
بوكلت حروف اللغة العربيةأمنية وجدى
 
Guidance in arabic grammar
Guidance in arabic grammarGuidance in arabic grammar
Guidance in arabic grammarMansour1
 
فَعَلَ فَعِلَ فَعُلَ
فَعَلَ		فَعِلَ		فَعُلَفَعَلَ		فَعِلَ		فَعُلَ
فَعَلَ فَعِلَ فَعُلَMansour1
 
مهارات القراءة الفعالة
مهارات القراءة الفعالةمهارات القراءة الفعالة
مهارات القراءة الفعالةrofaydah
 
مدونة القسم في اللغة العربية السنة السادسة
مدونة القسم في اللغة العربية   السنة السادسةمدونة القسم في اللغة العربية   السنة السادسة
مدونة القسم في اللغة العربية السنة السادسةEttaoufik Elayedi
 
Messagerie
MessagerieMessagerie
MessagerieMansour1
 
L'accusatif / النصب
L'accusatif / النصبL'accusatif / النصب
L'accusatif / النصبMansour1
 
رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...
رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...
رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...butest
 
‫هيا نبدأ رحلة الحروف نسخة
‫هيا نبدأ رحلة الحروف   نسخة‫هيا نبدأ رحلة الحروف   نسخة
‫هيا نبدأ رحلة الحروف نسخةso0o0maya
 
30fichespourfrancais
30fichespourfrancais  30fichespourfrancais
30fichespourfrancais Yassine King
 
2013تعليم القراءة
2013تعليم القراءة2013تعليم القراءة
2013تعليم القراءةshubki
 
التاء المربوطة و التاء المفتوحة
التاء المربوطة و  التاء المفتوحةالتاء المربوطة و  التاء المفتوحة
التاء المربوطة و التاء المفتوحةMarah Najah
 
Livre parascolaire français-6 ème année primaire
Livre parascolaire français-6 ème année primaireLivre parascolaire français-6 ème année primaire
Livre parascolaire français-6 ème année primaireEttaoufik Elayedi
 
الإضاءة في بيان أصول القراءة
الإضاءة في بيان أصول القراءةالإضاءة في بيان أصول القراءة
الإضاءة في بيان أصول القراءةJonas MT
 

En vedette (17)

بوكلت حروف اللغة العربية
بوكلت حروف اللغة العربيةبوكلت حروف اللغة العربية
بوكلت حروف اللغة العربية
 
Guidance in arabic grammar
Guidance in arabic grammarGuidance in arabic grammar
Guidance in arabic grammar
 
ترجمة فرنسي عربي
ترجمة فرنسي عربيترجمة فرنسي عربي
ترجمة فرنسي عربي
 
فَعَلَ فَعِلَ فَعُلَ
فَعَلَ		فَعِلَ		فَعُلَفَعَلَ		فَعِلَ		فَعُلَ
فَعَلَ فَعِلَ فَعُلَ
 
مهارات القراءة الفعالة
مهارات القراءة الفعالةمهارات القراءة الفعالة
مهارات القراءة الفعالة
 
مدونة القسم في اللغة العربية السنة السادسة
مدونة القسم في اللغة العربية   السنة السادسةمدونة القسم في اللغة العربية   السنة السادسة
مدونة القسم في اللغة العربية السنة السادسة
 
Messagerie
MessagerieMessagerie
Messagerie
 
L'accusatif / النصب
L'accusatif / النصبL'accusatif / النصب
L'accusatif / النصب
 
Arabic rhetoric 1
Arabic rhetoric 1Arabic rhetoric 1
Arabic rhetoric 1
 
رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...
رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...
رقميات مسرد مصطلح الرقميات إنجليزي/ عربي/فرنسي جزء 1 / 67 أعده د ...
 
العواصف
العواصف العواصف
العواصف
 
‫هيا نبدأ رحلة الحروف نسخة
‫هيا نبدأ رحلة الحروف   نسخة‫هيا نبدأ رحلة الحروف   نسخة
‫هيا نبدأ رحلة الحروف نسخة
 
30fichespourfrancais
30fichespourfrancais  30fichespourfrancais
30fichespourfrancais
 
2013تعليم القراءة
2013تعليم القراءة2013تعليم القراءة
2013تعليم القراءة
 
التاء المربوطة و التاء المفتوحة
التاء المربوطة و  التاء المفتوحةالتاء المربوطة و  التاء المفتوحة
التاء المربوطة و التاء المفتوحة
 
Livre parascolaire français-6 ème année primaire
Livre parascolaire français-6 ème année primaireLivre parascolaire français-6 ème année primaire
Livre parascolaire français-6 ème année primaire
 
الإضاءة في بيان أصول القراءة
الإضاءة في بيان أصول القراءةالإضاءة في بيان أصول القراءة
الإضاءة في بيان أصول القراءة
 

Similaire à الاصلاح

هل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسيهل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسيMed Aymen Oueslati
 
هل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسيهل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسيMed Aymen Oueslati
 
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3Mouldi Daoudi
 
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2Mouldi Daoudi
 
AL QOT CP260214
AL QOT CP260214 AL QOT CP260214
AL QOT CP260214 Al QOTB
 
تونس ..سنة بعد حكم الترويكا
تونس ..سنة بعد حكم الترويكاتونس ..سنة بعد حكم الترويكا
تونس ..سنة بعد حكم الترويكاMbarki Noureddine
 
البرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامة
البرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامةالبرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامة
البرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامةhoda_ata
 
حركة النهضة وفقه المناورة السياسية
حركة النهضة وفقه المناورة السياسيةحركة النهضة وفقه المناورة السياسية
حركة النهضة وفقه المناورة السياسيةMouldi Daoudi
 
النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ
النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ
النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ fwid96
 
Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent
 Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent
Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violentJamaity
 
Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر
 Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر
Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصرbenamor belgacem
 
حول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانية
حول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانيةحول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانية
حول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانيةMbarki Noureddine
 
المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي
المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي
المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي Mbarki Noureddine
 

Similaire à الاصلاح (20)

هل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسيهل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسي
 
هل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسيهل هناك-يسار-تونسي
هل هناك-يسار-تونسي
 
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 3
 
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2
حزب حركة النهضة وفقه المناورة السياسية 2
 
AL QOT CP260214
AL QOT CP260214 AL QOT CP260214
AL QOT CP260214
 
تونس ..سنة بعد حكم الترويكا
تونس ..سنة بعد حكم الترويكاتونس ..سنة بعد حكم الترويكا
تونس ..سنة بعد حكم الترويكا
 
الفجر 191
الفجر 191الفجر 191
الفجر 191
 
البرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامة
البرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامةالبرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامة
البرنامج الانتخابى للصحفى رضا عبدالعزيز سلامة
 
حركة النهضة وفقه المناورة السياسية
حركة النهضة وفقه المناورة السياسيةحركة النهضة وفقه المناورة السياسية
حركة النهضة وفقه المناورة السياسية
 
الفجر 132
الفجر 132الفجر 132
الفجر 132
 
النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ
النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ
النساء وثورة 25 يناير نساء يعزفن ملحمة التاريخ
 
Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent
 Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent
Étude: Pensée sociale et résonances avec l'extrémisme violent
 
Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر
 Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر
Benamor.belgacemمصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر
 
حول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانية
حول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانيةحول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانية
حول الديمقراطية التوافقية / التجربة العراقية و اللبنانية
 
الفجر 250
الفجر 250الفجر 250
الفجر 250
 
الفجر 198
الفجر 198الفجر 198
الفجر 198
 
الفجر 123
الفجر 123الفجر 123
الفجر 123
 
المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي
المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي
المنصف المرزوقي في حضن الاسلام السياسي
 
الفجر 209
الفجر 209الفجر 209
الفجر 209
 
الفجر 206
الفجر 206الفجر 206
الفجر 206
 

Plus de العجمي الشبل

Plus de العجمي الشبل (10)

Constit proj 20140123 de Tunisie
Constit proj 20140123 de TunisieConstit proj 20140123 de Tunisie
Constit proj 20140123 de Tunisie
 
فرسان الاسلام وحروب المماليك
فرسان الاسلام وحروب المماليكفرسان الاسلام وحروب المماليك
فرسان الاسلام وحروب المماليك
 
الكتاب الأسود Livre noir
الكتاب الأسود   Livre noir الكتاب الأسود   Livre noir
الكتاب الأسود Livre noir
 
Le système judiciaire du Japon
Le système judiciaire du JaponLe système judiciaire du Japon
Le système judiciaire du Japon
 
Livre numerique helene_baribeau
Livre numerique helene_baribeauLivre numerique helene_baribeau
Livre numerique helene_baribeau
 
Guide orientation universitaire en tunisie
Guide orientation universitaire en tunisieGuide orientation universitaire en tunisie
Guide orientation universitaire en tunisie
 
Ipj moyens-justice
Ipj moyens-justiceIpj moyens-justice
Ipj moyens-justice
 
Projet brouillon constitution de tunisie
Projet brouillon constitution de tunisieProjet brouillon constitution de tunisie
Projet brouillon constitution de tunisie
 
Cours animation et multimédia:
Cours animation et multimédia:Cours animation et multimédia:
Cours animation et multimédia:
 
المعتمد بن عباد
المعتمد بن عبادالمعتمد بن عباد
المعتمد بن عباد
 

الاصلاح

  • 1. ‫اإلصالح‬ ‫﴿ إن أريد إ ّ اإلصالح ما استطعت‬ ‫ال‬ ‫وما توفيقي إ ّ باهلل﴾‬ ‫ال‬ ‫( قرآن كريم)‬ ‫العدد السابع واألربعون السنة الثانية 8 ربيع األول 5341 - - جانفي 4102‬ ‫العدد الثامن والعشرون السنة الثانية - 9مجادى الثانية 4341 0191 أفريل 3102‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬ ‫بقلم : محمد القوماني‬ ‫الثورة التونسية وصناعة الحياة‬ ‫بقلم : د. حسن الطرابلسي‬ ‫ما هكذا تبنى األوطان، ما هكذا تنهض األمم ...‬ ‫بقلم : شكري عسلوج‬ ‫في السؤال القديم المتجدد:‬ ‫الثورة العربية بين الممكن والمستحيل‬ ‫بقلم : د.محمد الحاج سالم‬
  • 2. ‫األولى‬ ‫بسم هللا والصالة والسالم على رسول هللا‬ ‫ّ‬ ‫ما حدث قبل ثالث سنوات كان حدثا جلال ال ريب فيه شد إليه أنظار العالم كلّه وأخرجنا نحن العرب من سباتنا العميق ومن واقع طغى عليه‬ ‫االستبداد والظلم والقهر. لقد غيّرت األحداث التي اندلعت في تونس ثم انتشرت كانتشار النار في الهشيم في بقية الدول العربية موازين القوى‬ ‫وأسقطت عددا من رؤوس األنظمة االستبدادية الفاسدة ومارست الشعوب ألول مرّة في تاريخها حقّها االنتخابي بكل حرّية وشفافية وأتت بمن‬ ‫ّ‬ ‫كان في السجون إلى سدة الحكم. غير أن األمور لم تسر كما تمنّتها الشعوب العربيّة وتحوّل الربيع العربي إلى خريف تساقطت معه المكاسب كما‬ ‫تتساقط أوراق الشجر وتحوّل الحلم العربي إلى كابوس مخيف يعلم هللا وحده متى تستيقظ منه الشعوب.‬ ‫فبدال من حصول انتقال من االستبداد والقمع إلى الحرّية والديمقراطية ومن نظام الشخص الواحد إلى نظام ديمقراطي ومن حكم العائلة إلى‬ ‫حكم الشعب عبر إرساء دعائم نظام يقوم على المواطنة ، عاد النظام القديم في اليمن في جلباب جديد وانقلب العسكر على الرئيس الشرعي في‬ ‫مصر ودخلت ليبيا في دوامة حرب العصابات ونظام الالدولة وتحولت سوريا إلى حلبة قتال عنيف راح ضحيّته عشرات اآلالف من المدنيين‬ ‫ّ‬ ‫السوريين من أطفال ونساء وشيوخ. أما تونس فقد شهدت عودة االغتياالت السياسية وأصبحت البالد تودع أزمة لتستقبل أخرى أعنف منها فهل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذا هو النتاج الطبيعي للفترة االنتقالية التي تعرفها كل الثورات ؟ وهل تدخل هذه االضطرابات والتجاذبات ضمن إرهاصات الثورة؟ أم أنها‬ ‫ّ‬ ‫االنتكاسة والعودة إلى نقطة الصفر؟ وهل ما يحدث اليوم سببه فشل النخبة السياسية التي تسلّمت زمام األمور في تحقيق الشعارات التي رفعتها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجموع الثائرة وفي استعادة أمن واستقرار البالد ؟، أم أن قوى الردة أو ما يصطلح على تسميته بقوى الثورة المضادة قد بدأت تأخذ بزمام األمور‬ ‫بعد أن فرضت وجودها في غياب قرارات ثورية لتحصين الثورة؟ أم أن األمر مرتبط أساسا بعوامل خارجيّة ضاغطة ومتحكمة في األحداث؟‬ ‫أسئلة عديدة تطرح نفسها ونحن نحتفل بالذكرى الثالثة الندالع الثورات العربية ، لعلّنا نفهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث في المستقبل.‬ ‫يرى البعض أن القوى االستعمارية التي كانت تساند الطواغيت قد استفاقت بسرعة من صدمتها بعد أن فاجأها الزلزال العربي واستطاعت‬ ‫بحكم حنكتها ودهاء سياسييها من جهة وضعف خبرة القوى التي أتت بها الثورة وعدم توحّدها من جهة أخرى بأن تأخذ من جديد بزمام األمور‬ ‫وتتحكم في العملية السياسية بدول «ثورات الربيع العربي» وتوجهها نحو إجهاض عملية االنتقال الديمقراطي أو على األقل تشويهه بما يضمن‬ ‫مصالحها االستعمارية وتبعية األنظمة الجديدة لمنظومتها.‬ ‫ويرى البعض اآلخر بأن ما حدث خالل السنوات الثالث أمر طبيعي ذلك أن الثورة ليست عمال محدودا في الزمان والمكان وإنما هي عمل‬ ‫معقّد من حيث تداخل عناصره وارتباطه بالواقع الجيو- سياسي واالجتماعي وهو أيضا شاق ومضن يتطلب الكثير من التضحيات والصبر والعمل‬ ‫ٍ‬ ‫واليقظة فال يمكن حرق مراحل الثورة أو استعجال قطاف ثمارها. وما يحدث اليوم في تونس أو في مصر إنما هي تحوالت طبيعيّة ومتوقعة فقوى‬ ‫ّ‬ ‫الثورة المضادة والمعارضة للنظام الجديد تتوحّد وتسعى جاهدة إلفشال المسار الثوري لكنها ستفشل حتما بقرار سنن التاريخ حتّى وان اعترت‬ ‫هذا المسار هزّ‬ ‫ات ومطبّات ألن ما يحدث اليوم إنما هو استكمال متأخر لموجة الديمقراطية الثالثة على رأي المفكر األمريكي الراحل صموئيل‬ ‫هنتنغتون التي شملت دول من أوروبا الشرقية وأمريكا الالتينيّة وبعض الدول اإلفريقية أو هو بداية لموجة ديمقراطية رابعة انطلقت من تونس‬ ‫لتنخرط فيها بقية الدول العربية وغيرها التي مازال يحكمها االستبداد والقمع.‬ ‫ونحن نرى أن تفسير ما حدث خالل السنوات الثالث الماضية يحتمل شيئا من هذا وشيئا من ذاك . لقد قررت الشعوب العربية بانتفاضتها أن‬ ‫ّ‬ ‫تنخرط في عمليات التحرر من أنظمة االستبداد والتسلط والتماس طريقها نحو االنتقال الديمقراطي برغم أنف قوى الشد إلى الوراء ومن تساندها‬ ‫َ ِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫من قوى استعمارية وقوى معادية لهذه األمةّ تخشى نهضتها وستتحقق إرادتها بعون هللا « ونُريد أَن نَّمن علَى الَّذينَ استُضْ عفُوا فِي الأَْرْ ض‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ِّ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ِ ْ َّ َ‬ ‫ونَجْ علَهُم أَئِمةً ونَجْ علَهُم الوارثِينَ (5) ونُمكنَ لَهُم فِي الأَْرْ ض ونُري فِرْ عَوْ نَ وهَامانَ وجنُودهُما منهُم ما كانُوا يَحْ ذرُونَ (6)» سورة القصص .‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َّ َ َ ُ ْ َ ِ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫غير أن النجاح في تحقيق هذه اإلرادة ال يمكن أن يحصل إال عبر العمل المشترك في المسارات الثالثة التالية: السياسية والثقافية واالقتصادية.‬ ‫فالمواطن العربي الذي ثار على االستبداد يرى أن أولوياته تكمن في تحسين األوضاع االقتصادية وتحقيق االستقـــرار واألمـــن وهذا ال يمكــن‬ ‫ّ‬ ‫أن يتحقق إالّ عبر إرساء نظام ديمقراطي حقيقي يرتكز على ثقافة المواطنة الغائبة إلى حد اآلن وهو ما يتطلب توحيد الجهود إلنجاز ثورة ثقافية‬ ‫تنسف ثقافة االستبداد واألنانية والفوضى وتكرّس بديال وطنيّا قائما على االحترام المتبادل بين الدولة والمواطن وبين المواطنين أنفسهم وهو عمل‬ ‫صعب وشاق ال نرى مكونات المجتمع المدني من جمعيات ومفكرين ومثقفين قد انطلقوا في انجازه بعد.‬ ‫سيبقى تحول الشعوب العربية من واقع االستبداد والتهميش إلى واقع السيادة والمواطنة أعرجا ما لم تصاحبه ثورة ثقافية شاملة وحركة‬ ‫اقتصادية تعمل في كل االتجاهات وتؤسس على حبّ العمل واالستثمار في الوطن ومن أجل الوطن وستبقى المرحلة القادمة مفتوحة على كل‬ ‫االحتماالت مادامت القوى السياسية والمجتمعية تفتقر إلى رؤية مستقبلية مشتركة، أو متقاربة بالحدود الدنيا المطلوبة.‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فهل ستتواصل الهزات واالرتدادات واألزمات خالل هذا العام الجديد أم ستعرف مختلف القوى كيف تضع القطار على السكة الصحيحة‬ ‫لينطلق نحو الهدف المنشود؟ سؤال نختم به مصافحتنا وللحديث بقية.‬ ‫-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- المهندس فيصل العش‬ ‫2‬
  • 3. ‫الفهرس‬ ‫بهدوء‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نُفصح..‬ ‫مجرّد رأي‬ ‫الدستور التونسي والمنزلة بين المنزلتين‬ ‫في الصميم‬ ‫األمة في حاجة إلى «رجال مبادئ»‬ ‫وليس إلى حوار «الطرش»‬ ‫حوار حول الثورة‬ ‫في السؤال القديم المتجدّد:‬ ‫الثورة العربيّة بين الممكن والمستحيل‬ ‫نقاط على الحروف‬ ‫ما هكذا تُبنى األوطان، ما هكذا تنهض األمم ...‬ ‫تمتمات‬ ‫وأخيرا نجحنا‬ ‫الكلمة الحرّة‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالميّون والثورات العربيّة ... على سرير بروكوسْتْ‬ ‫همسات‬ ‫هل هي ثورة فعال ؟ هل هي انتفاضة ؟‬ ‫هل هي مسار ثوري ؟ أم ماذا ؟‬ ‫في العمق‬ ‫الثورة التونسية وصناعة الحياة‬ ‫وجهة نظر‬ ‫الثورة التونسية بين عفن الموروث و معلمة الكهنوت‬ ‫في التحليل السياسي‬ ‫الثورة التونسية : من إسقاط النظام إلى عودة األزالم.‬ ‫مدى النجاح أو الفشل !...‬ ‫من وحي الحدث‬ ‫صعوبات اإلنتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي‬ ‫بال حدود‬ ‫في الثورة: يقولون « ثورة » في تونس مريضة، قلت‬ ‫أغاني الحياة‬ ‫راجع راجع لبالدي‬ ‫قبل الوداع‬ ‫بيت العنكبوت‬ ‫محمد القوماني‬ ‫4‬ ‫عادل السمعلي‬ ‫9‬ ‫د. مصباح الشيباني‬ ‫01‬ ‫د. محمد الحاج سالم‬ ‫21‬ ‫شكري عسلوج‬ ‫61‬ ‫رفيق الشاهد‬ ‫91‬ ‫عبداللطبف علوي‬ ‫02‬ ‫إسماعيل بوسروال‬ ‫32‬ ‫د. حسن الطرابلسي‬ ‫52‬ ‫طه مصدق كعنيش‬ ‫82‬ ‫علي الطرهوني‬ ‫03‬ ‫محمد الطرابلسي‬ ‫43‬ ‫نعمان العش‬ ‫63‬ ‫غناء شباب الثورة‬ ‫83‬ ‫لطفي الدهواثي‬ ‫93‬ ‫3‬
  • 4. ‫بهدوء‬ ‫ُ‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬ ‫بقلم : محمد القوماني*‬ ‫ّ‬ ‫يحيـي التونسيــون الذكــرى الثالثــة لثــورة الكرامــة والحريـــة‬ ‫ّ‬ ‫71 ديسمبر/ 41 جانفي، مرة أخرى في ظل حالة من االنقسام السياسي‬ ‫الذي لم يسمح حتّى اآلن باالتفاق على تاريخ موحّد لذكرى الثورة‬ ‫ّ‬ ‫فضال عن أنشطة مشتركة لالحتفال بها، ووسط مخاوف متعددة‬ ‫وخاصة منها األمنية، لم تتح فرصة لمعنى االحتفال أصال منذ هروب‬ ‫الدكتاتور. وفي انتظار النتائج النهائية للحوار الوطني على جميع‬ ‫المسارات، الذي مازالت بعض اآلمال معلّقة عليه، رغم الصعوبات‬ ‫والخيبات، في تجاوز األزمة السياسية خاصة، وإحياء ذكرى الثورة‬ ‫يوم 41 جانفي 3102 في أجواء احتفالية وتضامنية، في انتظار ذلك،‬ ‫وبعد ثالث سنوات من الثورة المجيدة، وبعد أن ابتعدنا نسبيا عن أجواء‬ ‫الضغط بأنواعه وتراجعت العواطف لتفسح المجال للعقل بالمراجعة‬ ‫والتحليل، نرى من حقّنا ومن واجبنا في آن، أن نفصح عن بعض‬ ‫ّ‬ ‫المعطيات واالستنتاجات التي نقدر أن الوضوح فيها بات مطلوبا بل‬ ‫شرطا للنجاح في استكمال المسار الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة.‬ ‫1 ـ ثورة حقيقية‬ ‫بعيدا عن الجدال العقيم أحيانا حول مفاهيم الثورة واالنتفاضة‬ ‫واالحتجاج والغضب والتمرّد وغيرها من المصطلحات التي يختلف‬ ‫المحللون في أيّهـــا األنسب فــي توصيف مــا حصــل بتونس ما بين‬ ‫71 ديسمبر 0102 و41 جانفي 1102، يسلّم الجميع بأن أقل من‬ ‫شهر من التحركات الشعبيّة التي انطلقت من سيدي بوزيد وامتدت إلى‬ ‫القصرين بالوسط الغربي التونسي لتأخذ منعرجا حاسما، ولتعم مختلف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الواليات بدرجات متفاوتة من االحتجاج، كانت كفيلة بوضع حد لنظام‬ ‫بوليسي كان يُنظر إليه على أنه من أعتى الدكتاتوريات في المنطقة.‬ ‫تساءلت شخصيّا في مقال نشرتة مطلع جانفي 1102 بعنوان: الغضب‬ ‫االجتماعي بالوسط التونسي: هل يكون البداية؟ (1) وجاء الجواب‬ ‫ّ‬ ‫سريعا. ولعلّه من المفيد أن أذكر ببعض المقتطفات من ذلك المقال‬ ‫ألهميتها في إضـــاءة جوانب مــن واقع الحــال، والتي ذكرت فيها أن‬ ‫« تحرّكات الغضب االجتماعي بوالية سيدي بوزيد بالوسط التونسي‬ ‫التي امتدت على مدى األسبوعين األخيرين من سنة 0102، وجّهت‬ ‫ضربة موجعة للخطاب السياسي الرسمي القائم على جُمل دعائية‬ ‫ُ‬ ‫مفادها : «نجحنا ..ورضي المواطنون.. وشهد لنا العالم ..وسنواصل».‬ ‫كما شكلت تلك التحركات بتلقائيتها وخلفياتها االجتماعية وما القته من‬ ‫تجاوب في بقية جهات البالد وما حظيت به من دعم سياسي وتغطية‬ ‫إعالمية واسعة، فرصة استثنائية للوقوف على قضايا وطنية في غاية‬ ‫األهمية». وأضفت أن «تحركات الغضب االجتماعي بوالية سيدي‬ ‫بوزيد خاصة، وما سبقها من أحداث بالحوض المنجمي وبجهات‬ ‫ّ‬ ‫أخرى تؤشر على أن االنجازات دون المطلوب، وأن ثمار التنمية‬ ‫تحتاج إلى عدل أكبر في التوزيع، وأن الرضا عن النفس مضرّ، وأن‬ ‫صبر المواطنين محدود، وأن استحسان األجانب ال يصمد أمام مظاهر‬ ‫الغضب الشعبي. وأن مراجعات جوهرية باتت متأكدة لمنوال التنمية‬ ‫في الثقافة التي يستند إليها وفي األهداف التي يضعها وفي قاعدته‬ ‫االقتصادية بالداخل والخارج وفي الخيارات التي ينتهجها والسياسات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي يعتمدها». وشددت على أن «المعارضة بجميع أطيافها، بأحزابها‬ ‫وجمعياتها، وبنشطائها السياسيين والحقوقيين، لم تُوفّ‬ ‫ق في الصياغة‬ ‫المناسبة للتّالزم بين الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحقوق االقتصاديّة‬ ‫واالجتماعيّة، وبين مطالب الحرّيات الفرديّة والعامة ومطالب تحسين‬ ‫ّ‬ ‫ظروف عيش المواطنين. ولذلك تُربك االحتجاجات االجتماعية في كل‬ ‫ُ‬ ‫مرة المعارضة في خطابها وأجندتها.» ولست أبالغ حين أقول اليوم‬ ‫أننا بعد ثالث سنوات من ثورة 71 ديسمبر لم نستخلص الدرس في‬ ‫ّ‬ ‫الممارسة سلطة ومعارضة، ولم نوف حقوق الشهداء رحمهم هللا تعالى‬ ‫والجرحى والمستضعفين الذين فجروا تلك الثورة العظيمة، وما زال‬ ‫الوضع تقريبا على حاله.‬ ‫هرب المخلوع وبعض أفراد عائلته مساء يوم 41 جانفي 1102،‬ ‫وانزاح عن تونس كابوس االستبداد والفساد. تحرّر التونسيون ودخلوا‬ ‫في أجواء ما تواضعوا على تسميته بالثورة، التي دخلوا في حركيتها بعد‬ ‫41 جانفي بأعداد أكبر بكثير مما حصل قبل ذلك. تسارعت األحداث‬ ‫وسط مخاوف أمنية جمة وتضامن شعبي الفت في حماية األحياء‬ ‫ّ‬ ‫والممتلكات العامة والخاصة وفي ظل غموض في تفسير ما يحدث.‬ ‫غادر نزالء السجون من السياسيين وأصحاب الرأي خاصّة مواقعهم‬ ‫وعاد المهجّرون قسريّا تباعا. نشطت األحزاب والجمعيات بعد إعالن‬ ‫العفو التشريعي العام وإطالق حرية التنظّم القانوني. تغيّرت مالمح‬ ‫اإلعالم الخشبي وارتفع منسوب حرية التعبير إلى درجات قياسية.‬ ‫قادت بعض التحركات التلقائية في اإلدارة والمؤسسات والمدن والقرى‬ ‫إلى إجبار مسؤولين في العهد البائد على التنحّي تحت شعار «ديقاج»‬ ‫واستبدالهم بآخرين، وشملت العملية حتى بعض أئمة المساجد. كثر‬ ‫الجدال واللغط في أغلب األحوال حول الماضي والحاضر والمستقبل‬ ‫وتوّجت المرحلة االنتقالية األولى التي اعتمدت على «التوافق»‬ ‫بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي يوم 32 أكتوبر 1102 التى أشاد‬ ‫الجميع في الداخل والخارج بنزاهتها واعتبارها أول انتخابات حرّة‬ ‫«أننا بعد ثالث سنوات من ثورة 71 ديسمرب مل نستخلص الدرس يف املمارسة سلطة ومعارضة،‬ ‫ّ‬ ‫ومل نوف حقوق الشهداء رمحهم اهلل تعاىل واجلرحى واملستضعفني الذين فجروا تلك الثورة‬ ‫العظيمة، وما زال الوضع تقريبا على حاله . »‬ ‫4‬
  • 5. ‫ُ‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬ ‫وتعددية وشفافة في تاريخ تونس.‬ ‫انتصب مجلس تأسيسي منتخب من المعارضين السابقين في‬ ‫أغلبيته الساحقة، وإن بدا كثير منهم من غير المعروفين، واختار‬ ‫أعضاء المجلس المعارض البارز مصطفى بن جعفر رئيسا له. تم تسليم‬ ‫ّ‬ ‫السلطة للفائزين في االنتخابات وسط أجواء الفتة وصفت بالمتحضّرة‬ ‫ُ‬ ‫والديمقراطيّة. دخل المنصف المرزوقي، المعارض الشرس لبن علي،‬ ‫قصر قرطاج رئيسا لتونس. ودخل حمادي الجبالي السجين السياسي‬ ‫من حركة النهضة المحظورة سابقا، قصر القصبة، رئيسا لحكومة كان‬ ‫كثير من أعضائها من المساجين السياسيين والمهجّرين والمعارضين‬ ‫البارزين. وكانت كل هذه التحوّالت التي حاولنا اختزالها في العناوين‬ ‫الكبرى أدلّة قاطعة على أن تغييرات كبرى قد حصلت في الحكم وفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع، يحق وصفها بالثورة دون تردد. ثورة شدت أنظار العالم‬ ‫وشاع خبرها، وسرعان ما انتقل فتيلها إلى ربوع عربيّة أخرى في‬ ‫مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وكان انتصار الثورة في مصر‬ ‫وليبيا خاصة خير سند للثّورة التونسيّة.‬ ‫2 ـ ثورة مخصوصة‬ ‫خالل ثالث سنوات بعد الثورة تعاقبت علينا أربع حكومات‬ ‫ّ‬ ‫والخامسة في الطريق، لكن إلى حد اآلن ال توجد رواية رسميّة لما‬ ‫حدث في يوميّات الثورة وخاصة يوم 41 جانفي وما تاله. كما ال‬ ‫توجد روايات غير رسميّة موثوق بها ومتفق عليها. مازال التونسيون‬ ‫يتطلّعون إلى الحقيقة. من قتل الشهداء وأصاب الجرحى؟ ما حقيقة‬ ‫القنّاصة؟ ما الذي دفع بن علي إلى الهروب المفاجئ؟ ما تفاصيل‬ ‫ما جرى بقرطاج في الساعات األخيرة قبل الهروب وما تالها من‬ ‫قرارات؟ من كان يدير دفّة األمور ويقف وراء القرارات الحاسمة؟‬ ‫ما حجم التدخل الخارجي في األحداث والقرارات؟ من هي الجهات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتدخلـــة؟ هل فر بن على أم أجبـــر علـــى المغــــادرة؟ ماذا حصل‬ ‫في صفوف قوات األمن والجيش؟ ما حقيقة محاوالت االنقالب‬ ‫ّ‬ ‫الفاشلــة أو المتضادة؟ ما جوهر الصّراع داخل النخبة الحاكمة وما هي‬ ‫ّ‬ ‫أطرافه؟ ما سر االعتقاالت في صفوف القيادات األمنية والسياسية؟‬ ‫هل حصلت صفقات سياسيّة من وراء ظهور عموم التونسيين؟...أسئلة‬ ‫عديدة لم تحسم أجوبتها ومعطيات كثيرة لم يتم الكشف عنها رغم‬ ‫أعمال اللجان العديدة التي تشكلت في الغرض ورغم مرور وقت ليس‬ ‫بالقليل. وهذا ما يزيد في صعوبة فهم ما حدث وفي تعقيدات الجدال‬ ‫النظري حول الثورة التونسية.‬ ‫رضي عموم التونسيين أن يتم التحول «الثوري» في إطار‬ ‫ّ‬ ‫«دستور» 9591 المنقّح مرارا على القياس، والذي طالما انتقدته‬ ‫المعارضة واعتبرته غطاء لالستبداد. وتم تنصيب رئيس «برلمان‬ ‫بن علي» السيد فؤاد المبزع رئيسا مؤقتا للجمهورية بعد الثورة.‬ ‫ودخلت وجوه بارزة من المعارضة في حكومة مع وزراء سابقين‬ ‫برئاسة السيد محمد الغنوشي الوزير األول في «حكومة بن علي»‬ ‫وبدا األمر أقرب إلى استمرار «حكم التجمع الدستوري» دون بن علي‬ ‫وعائلته. استمر غضب الشباب واحتجاجاتهم وتصاعد وهج الثورة في‬ ‫اعتصام القصبة1 واعتصام القصبة2 وتشكلت معارضة لهذا المسار‬ ‫في إطار «المجلس الوطني لحماية الثورة» الذي ضم أهم األحزاب‬ ‫ّ‬ ‫برعاية االتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين‬ ‫والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق اإلنسان، فكانت من نتائج تصاعد‬ ‫االحتجاجات والضغوط، استقالة حكومة السيد محمد الغنوشي وإعالن‬ ‫ّ‬ ‫الرئيس المؤقت إلغاء العمل بالدستور وحل الهيئات الدستوريّة القائمة‬ ‫وتحديد موعد النتخاب مجلس وطني تأسيسي. تشكّ‬ ‫لت في ظروف‬ ‫اعتراها كثير من الغموض حكومة جديدة برئاسة السيد الباجي قائد‬ ‫السبسي، الوزير األسبق في حكم الرئيس بورقيبة ورئيس برلمان‬ ‫أسبق في أوائل حكم بن علي، لتأمين االنتخابات واستكمال المرحلة‬ ‫االنتقالية التوافقية، وتواطأت مختلف األطراف السياسية واالجتماعية‬ ‫والمدنية في القبول بحكومة سي الباجي. وتم بعث «الهيئة العليا لتحقيق‬ ‫ّ‬ ‫أهداف الثورة واإلصالح السياسي واالنتقال الديمقراطي» برئاسة‬ ‫ّ‬ ‫السيد عياض ابن عاشور لتحل عمليّا مكان المجلس الوطني وتعمل‬ ‫ّ‬ ‫في إطار رسمي بالتعاون مع الحكومة، وبسقف أقل بكثير مما طرحه‬ ‫«المجلس الوطني لحماية الثورة» في التنقيحات التي اقترح إجراءها‬ ‫على المرسوم الرئاسي المحدث للهيئة العليا.‬ ‫هكذا بدت المرحلة االنتقالية األولى مزيجا من الخطابات والمطالب‬ ‫ّ‬ ‫والقرارات الثورية ومن القرارات واإلجراءات والممارسات المضادة‬ ‫للثورة. إذ تم من ناحية إقرار العفو التشريعي العام واعتقال بعض‬ ‫ّ‬ ‫رموز النظام السابق وحل التجمع الدستوري وإدخال تغييرات في‬ ‫وزارة الداخلية ومصادرة بعض األمالك المرتبطة بالرئيس السابق‬ ‫وعائلته وبشبكات الفساد المالي والتوجه إلى انتخاب مجلس وطني‬ ‫تأسيسي وتشكيل هيئة عليا مستقلة لالنتخابات...وتم من ناحية ثانية‬ ‫ّ‬ ‫وبالتّـــوازي، تالعب بجــزء مــن األرشيــف وتنقّــل مشبـــوه لألموال‬ ‫واستعادة بعض الوجوه والدوائر المرتبطة بالمنظومة القديمة لمواقع‬ ‫« خالل ثالث سنوات بعد الثورة تعاقبت علينا أربع حكومات واخلامسة يف الطريق، لكن إىل حد‬ ‫ّ‬ ‫اآلن ال توجد رواية رمسية ملا حدث يف يوميات الثورة وخاصة يوم 41 جانفي وما تاله. كما ال توجد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫روايات غري رمسية موثوق بها ومتفق عليها. »‬ ‫ّ‬ ‫5‬
  • 6. ‫ُ‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬ ‫النفوذ في اإلدارة واإلعالم واألمن والقضاء وتشكيل مجموعات من‬ ‫التجمع المنحل، الذي لم يتم تفكيكه، ألحزاب بعناوين جديدة، وغياب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أية رؤية أو توجّه جدي للمحاسبة والمصارحة والمصالحة وإلصالح‬ ‫المؤسسات والقطاعات وخاصة الداخلية والقضاء واإلعالم...‬ ‫تم التركيز قصدا، من بعض الجهات التي انتسبت إلى الثورة‬ ‫ّ‬ ‫مخاتلة، على أن الثورة التونسية تلقائية وسلمية، ال قيادة لها وال‬ ‫ُ‬ ‫دور لألحزاب السياسية فيها، وأنّ‬ ‫مطالبها اجتماعية وتنموية وليست‬ ‫سياسية، وذلك بغاية إفراغ الثورة من محتواها والمساواة بين المتسببين‬ ‫فيها بفسادهم وظلمهم من المنظومة القديمة والخاسرين لمواقعهم‬ ‫ومصالحهم بسببها، وبين المشاركين فيها من المكتوين بنار االستبداد‬ ‫ُ‬ ‫والفساد، من مختلف األجيال واالتجاهات الفكرية والسياسية، الذين‬ ‫راكموا أسبابها بنضاالتهم وتضحياتهم، والمستفيدين من هذه الثورة‬ ‫المباركة التي توّجت مسارا ولم تحصل فجأة كما يتم الترويج لذلك،‬ ‫بصرف النظر عن تعقيدات اليوميّات الحاسمة في الثورة والمتدخلين‬ ‫فيها والفاعلين في نتائجها.‬ ‫لهذه األسباب جميعا، ولتفاصيل أخرى يطول شرحها، يمكن‬ ‫القول أن ثورة الحرية والكرامة التونسية، ثورة حقيقية ال مصلحة‬ ‫في التشكيك فيها، للمنحازين إليها والمستفيدين من حصولها، لكنها‬ ‫ّ‬ ‫تبقى ثورة مخصوصة على غير مثال سابق، يتحدد مصيرها ومدى‬ ‫نجاحها في تحقيق أهدافها بمدى قدرة المدافعين عنها في مواجهة القوى‬ ‫المضادة للثورة وإحباط مخططاتهم إلفشال مسارها واالنقضاض على‬ ‫مكتسباتها. وأحسب أن االنتصار الحقيقي للثورة لن يكون بالمزايدة‬ ‫في االنتساب إليها والوصاية عليها بخطابات «ثورجية» تنفّر وال‬ ‫ّ‬ ‫تبشر، وتهدم وال تبني، وتفرّق وال تجمع، بل بخطاب إصالحي أصيل‬ ‫ّ‬ ‫وبدائل عملية تكشف قدرة على االقتراح، وتوازي بين الهدم والبناء‬ ‫وتقطع مع منظومة الفساد واالستبداد، دون أن تفرّط في المكاسب‬ ‫وتضم جهود المتأخرين لمن سبقهم في الخير واإلصالح.‬ ‫3 ـ مسار تأسيسي خاطئ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تمر تونس بعد ثالث سنوات من الثورة بأزمة سياسيّة حادة، يحتدم‬ ‫فيها الصراع العاري حول الحكم ويضرب فيها اإلرهاب بقوة وتدخل‬ ‫أجهزة الدولة سرعة قصوى في مواجهته، وتتعاظم مخاطر االنهيار‬ ‫االقتصادي واالنفجار االجتماعي والفوضـــى وتتزايــــد التدخــــالت‬ ‫الخارجية في الشأن الداخلي ويُلقي الزلزال السياسي المصري بظالله‬ ‫على الساحة الوطنية. وتبدو األزمة الحالية وثيقة الصّلة بمسار ما بعد‬ ‫االنتخابات.‬ ‫لم يكن الخطأ في اختيار انتخاب مجلس وطني تأسيسي كما يرى‬ ‫البعض، فهذا االختيار يبدو أقرب إلى جوهر الثورة في النزوع إلى‬ ‫القطع مع منظومة الفساد واالستبداد، بل كان الخطأ في ضعف تمثّل‬ ‫مقتضيات التأسيس والتعاطي غير المناسب مع تلك المقتضيــــــــات.‬ ‫إذ تعكس األزمة الحالية في العمق، مأزق مسار تأسيسي خاطئ نبّهنا‬ ‫ّ‬ ‫إليه مبكرا حين قلنا بعد انتخابات 32 أكتوبر 1102 أن «استقطاب‬ ‫المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة نراه غير صحّي في سياق‬ ‫ّ‬ ‫تأسيسي، يقتضي شراكة ال تطمس التعددية وحق االختالف.‬ ‫فاألطرف الحاكمة مهما كانت شرعيّتها، ال يمكن أن تستأثر بالمرحلة‬ ‫لوحدها. والشرعية االنتخابية غير كافية لممارسة السلطة. إذ ال يمكن‬ ‫الحكم بمنطق األغلبية في غياب دستور وعقد اجتماعي وسياسي‬ ‫واتفاق بين جميع األطراف على قواعد إدارة الحكم. كما أن األطراف‬ ‫ّ‬ ‫السياسية التي اختارت المعارضة مبكرا وصنعت حاجزا بينها وبين‬ ‫الحكومة، تتحمل المسؤولية في المشهد االستقطابي السلبي ومخاطره.‬ ‫فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة‬ ‫السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق أهداف الثورة.‬ ‫فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا ألي طرف.‬ ‫والتوازن ضروري للمجتمع في كل األحوال».(2)‬ ‫كانت فكرة الحكم من خالل ائتالف حزبي ثالثي اختيارا صائبا‬ ‫مقارنة بالتجربة المصرية على سبيل المثال، مع أن ذلك الثالثي لم‬ ‫يمنح الحكم الجديد السند السياسي الكافي لمواجهة تحديات كبرى بعد‬ ‫الثورة وإرث ثقيل لم يحسن الثالثي الحاكم تقديره. فالشرعية االنتخابية‬ ‫التي بالغت «الترويكا» في التذكير بها، لم تمنحها القوة السياسية‬ ‫المطلوبة للحكم وفرض التقيّد بالقانون. مما شجّع على االنفالت األمني‬ ‫واستفحال الجريمة بأنواعها وتهديد الممتلكات الخاصة والعامة وتهديد‬ ‫الحريات والعجز عن التحكم في االرتفاع المشط لألسعار واستمرار‬ ‫االحتجاجات االجتماعية وعدم نشاط االستثمار الداخلي والخارجي‬ ‫بالنسق المطلوب. ولذلك نادينا بعد مواجهات أحداث 90 افريل‬ ‫2102، أي أشهر قليلة بعد حكم «الترويكا»، إلى «مبادرة سياسية‬ ‫لخفض التشنج وبناء الشرعية»(3). وعملنا في هذا االتجاه ولم نجد‬ ‫التجاوب الكافي.‬ ‫أساءت «الترويكا» استخدام التفويض الشعبي، فبدت تشتغل‬ ‫ّ‬ ‫كوريث للحكم المنهار في حين تشدد في خطابها على التأسيس والقطع‬ ‫« تبقى الثورة التونسية ثورة خمصوصة على غري مثال سابق، يتحدد مصريها ومدى جناحها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف حتقيق أهدافها مبدى قدرة املدافعني عنها يف مواجهة القوى املضادة للثورة وإحباط‬ ‫خمططاتهم إلفشال مسارها واالنقضاض على مكتسباتها»‬ ‫6‬
  • 7. ‫ُ‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬ ‫مع الماضي. ودفعتها نشوة االنتصار في االنتخابات في المرحلة‬ ‫األولى من الحكم خاصة إلى إظهار استعالء ونزعة في الهيمنة زادتا‬ ‫في توتير الوضع السياسي. ولذلك اعتبرنا دائما أن تعبير «الصفر‬ ‫فاصل» في وصف المعارضة تعبير خاطئ ومضلّل وسلبي.‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تعددت أخطاء الثالثي الحاكم بقيادة حركة النهضة، الذي لم يف‬ ‫بوعوده المعلنة في برامجه وحملته االنتخابية، وكشف عن سذاجة‬ ‫سياسية أو سوء تقدير، حين علّق آماال عريضة على انتصار الثورة‬ ‫الليبية وعلى وعود األشقاء واألصدقاء بالدعم المطلوب. وتآكلت‬ ‫مصداقيته مع مرور األشهر وتجديد وعوده بالنتائج المرجوّة في‬ ‫قادم األيام. عجزت الحكومة على تنفيذ مشاريعها المعلنة في الجهات‬ ‫المحتقنة خاصة. تفاقم التهريب بأنواعه واستشرى االحتكار والفساد‬ ‫وارتفعت األسعار وكثر التذمر الشعبي من صعوبات العيش وتراجع‬ ‫ّ‬ ‫الخدمات. تعطّل اإلنتاج في قطاعات حيوية وخاصة في الفسفاط‬ ‫وتضررت ميزانية الدولة، فازدادت المصاعب المالية وارتفعت‬ ‫المديونية وشحّت القروض. تأزمت العالقة بالنقابات وخاصة‬ ‫باالتحاد العام التونسي للشغل في مناسبات عديدة، وتنامى العنف‬ ‫اللفظي والمادي حتى بلغنا االغتيال السياسي. وتصاعدت المخاوف‬ ‫األمنية بعد االكتشافات المتكررة لمخابئ لألسلحة في مناطق مختلفة‬ ‫من البالد وتم استهداف عناصر من الجيش واألمن الوطنيين على‬ ‫يد إرهابيين. تراكمت التجاوزات في مجال انتهاك حقوق اإلنسان،‬ ‫فكان القمع البوليسي على طريقة النظام السابق في أكثر من مناسبة‬ ‫وتأزمت العالقة بالمعارضة الديمقراطية داخل المجلس التأسيسي‬ ‫خاصة، وكانت المواجهة مع المتشددين الدينيين على أكثر من صعيد،‬ ‫ودخل عنصر الدم مجددا على الخط بعد الثورة. وتواترت أخبار عن‬ ‫عودة التعذيب واستشهد مضربون عن الطعام بالسجون. كما تكرّرت‬ ‫اإلخفاقات في السياسة الخارجية ولم تظهر مؤشرات ايجابية نوعية في‬ ‫العالقة بالجيران. (4)‬ ‫تأخر مسار العدالة االنتقالية، الذي تتحمل فيه «الترويكا»‬ ‫المسؤولية الرئيسية، وتنامت أزمة الثقة بين الماسكين الجدد بالسلطة‬ ‫وبين خصومهم، من أصدقائهم في المعارضة باألمس أو من المستفيدين‬ ‫من الحكم السابق. يتبادل الفريقان تهم احتكار السلطة وعقلية الغنيمة‬ ‫ونزعة الهيمنة غير المشروعة على الدولة من جهة، أو عدم التسليم‬ ‫بنتائج االنتخابات الحرّة والتآمر على السلطة الشرعية وعرقلة عملها‬ ‫ومحاولة االنقالب عليها، من جهة أخرى.‬ ‫لعبت المعارضة أدوارا سلبية في عرقلة المسار التأسيسي وإرباك‬ ‫الحكم الجديد واتخذت بعض أطرافها منحى انقالبيا أصال، ولم تتحمل‬ ‫أطراف أخرى منها مسؤولياتها بالقدر الكافي في البناء، باعتبارها‬ ‫شريكة في السلطة اعتمادا على تمثيليتها في المجلس الوطني التأسيسي‬ ‫بصفته السلطة األصلية. لكن المعارضة في المحصّلة استطاعت أن‬ ‫تخلق حالة من التوازن في المشهد السياسي، الذي يبدو ضروريا‬ ‫للديمقراطية، وكان مفقودا في نتائج االنتخابات. كما نجحت المعارضة‬ ‫ّ‬ ‫في االستفادة من انحياز اإلعالم عموما ضد الحكم لتفرض عليه حالة‬ ‫من الضغط والمراقبة االيجابية، وتجبره على المراجعة والتعديل في‬ ‫مرّات عديدة وفي مواضيع مختلفة.‬ ‫وإضافة إلى ما سبق، زادت األخطاء المنهجية في تمشي المجلس‬ ‫الوطني التأسيسي الطين بلّة، وخاصة عدم تقيده بفترة زمنية، وضعف‬ ‫ّ‬ ‫أداء رئيسه وأعضائه، وحدة المناكفات السياسية داخله، وحصر مهمة‬ ‫التأسيس تقريبا في الدستور الجديد، الذي حاول البعض حصر مهمة‬ ‫ّ‬ ‫المجلس فيه، والحال أن التأسيس كان يقتضي في الحد األدنى وفي‬ ‫المقام األول تقييما عميقا لخيارات الحكم السابق وأخطائه الكبرى‬ ‫والتوافق على مالمح مشروع وطني جديد يوجه السياسة الداخلية‬ ‫والخارجية في مختلف المجاالت. كما يقتضي تسريع آلية وطنية متفق‬ ‫عليه للمحاسبة والمصارحة والمصالحة الوطنية.‬ ‫4 ـ مخاطر تتهدد المسار الثوري واالنتقال الديمقراطي‬ ‫نجح هذا الجيل في الثورة على رموز االستبداد وأبعدهم من‬ ‫رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه أجيال سابقة، وكسّر قاعدة‬ ‫ّ‬ ‫االستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إلى حد اآلن في إسقاط‬ ‫النظام القديم وبناء ديمقراطية فعلية. وقد كشف التجربة المصرية‬ ‫ّ‬ ‫أن عوامل خارجية، إضافة إلى األسباب الداخلية المعلومة، ساهمت‬ ‫في إجهاض الحلم العربي في الديمقراطية، باعتبارها شرط التنمية‬ ‫الشاملة والنهضة الحضارية، وأن عناصر قديمة مؤثرة في الوضع‬ ‫العربي، ما زالت تفعل فعلها بقوة. وليس الدور الخليجي المؤامراتي‬ ‫الذي تأكد في ما حصل من انتكاسة بمصر، والتواطؤ الدولي المريب،‬ ‫الذي تلكأ في إدانة االنقالب وما تاله من مجازر في حق المصريين‬ ‫ّ‬ ‫العزل، سوى برهانا على ذلك. لذلك يتعيّن على الثوريين المخلصين‬ ‫أن ينجحوا في كشف المخاطر والمؤامرات الداخلية والخارجية، وأن‬ ‫يعملوا بواقعية على تفكيك منظومة الفساد واالستبداد وحماية القرار‬ ‫الوطني المستقل وااللتحام بالجماهير التي تظل يقظتها ومشاركتها في‬ ‫« جنح هذا اجليل يف الثورة على رموز االستبداد وأبعدهم من رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه‬ ‫أجيال سابقة، وكسر قاعدة االستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إىل حد اآلن يف إسقاط‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النظام القديم وبناء دميقراطية فعلية. »‬ ‫7‬
  • 8. ‫ُ‬ ‫بعد ثالث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نفصح..‬ ‫ّ‬ ‫رفع التحديات أكبر تحصين للثورة ضد أعدائها. وأن يعمقوا النظر‬ ‫ّ‬ ‫أكثر في تعقيدات التغيير ومتطلباته، في ضوء المشهد العربي عموما‬ ‫والتونسي خصوصا، لنستفيد من تجارب الماضي ونعي حقائق األمور‬ ‫بعيدا عن العنتريات واألحالم الوردية والشعارات وتبسيط القضايا إلى‬ ‫حد اإلسفاف. (5)‬ ‫لن نكسب شيئا من تبادل التهم وتحميل المسؤولية لجهة واحدة‬ ‫في تعثّر مسار الديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة. فالمسؤولية تظل‬ ‫جماعية وإن اختلفت الدرجات والمقادير. للحاكمين الجدد مسؤولية‬ ‫وللمعارضة ولمن هم خارج هذا التصنيف من سياسيين ونشطاء في‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع المدني، وللقوى المضادة للثورة في الداخل والخارج تأثيرها.‬ ‫ولعامة قوى الشعب مسؤولية أيضا. أخطأنا في الحكم وفي المعارضة‬ ‫كما أسلفنا، ولكن لم نحسن عموما ترتيب األوليات ولم نظهر ما يكفي‬ ‫من التضحية والصبر والتضامن في ظروف انتقالية صعبة. تحرّكت‬ ‫المصالح الشخصية والفئوية والنعرات الجهوية والقبليّة. تراجع اإلقبال‬ ‫عن العمل وأداء الواجب. بلغ عدد اإلضرابات واالعتصامات رقما‬ ‫قياسيا. استجابت الحكومات المتعاقبة لبعض المطالب تحت الضغط‬ ‫فأثقلت كاهل الدولة. لم يستأنف االقتصاد دورته العادية وصارت‬ ‫ّ‬ ‫المؤشرات السلبية للنمو وحدة األزمة السياسية وغموض المسار‬ ‫عوامل مضاعفة لألزمة المالية ولمخاطر االنهيار االقتصادي. تراجع‬ ‫منسوب الرغبة في المشاركة في الحياة العامة واالنخراط في األحزاب‬ ‫والجمعيات وبتنا نسجل عزوفا متناميا لدى األغلبية من الشباب خاصة،‬ ‫بما يؤشر على استمرار أزمة التنمية السياسية وضعف ثقافة المواطنة‬ ‫والديمقراطية.‬ ‫لقد جربنا التغيير بالبداية من األعلى واستهداف رأس السلطة‬ ‫والتعويل على قوة الدولة أكثر من االهتمام بتطوير المجتمع، وكانت‬ ‫ّ‬ ‫النتائج مخيبة لآلمال على مدى عقود، فهل نعي الدرس ونعدل‬ ‫البوصلة ونجرّب مداخل ثبت نجاحها ولو في ربوع أخرى؟ هل حان‬ ‫الوقت لمراجعة عميقة لمناهج التغيير التي دأبنا عليها وروّجنا لها‬ ‫طويال، وللفكر السياسي الذي قادنا في السابق؟ وهل نوفّق في بناء‬ ‫الثقة ووضع معجم خاص باالنتقال بين الفاعلين السياسيين، وتطوير‬ ‫ُ‬ ‫الوفاقات عبر حوار وطني حقيقي، ووضع اآلليات الضامنة للتطبيق‬ ‫والحامية للمكتسبات. فنتوخي المرحلية في تغيير الواقع نوعيا، دون‬ ‫هزات ال يتطلبها وضعنا وال يتحملها. ونستحضر المشترك ونبني‬ ‫ّ‬ ‫عليه ونستبعد التنافي واإلقصاء واإلكراه ونحل التنافس السياسي‬ ‫بدل العداوة. ونعتمد اإلصالح الذي ينطلق من مرتكزات إيجابية في‬ ‫الواقع لمعالجة السلبيات، ويستبعد النقض واستئصال الخصم والبدائل‬ ‫الشمولية. ونتوخى التدرج والمرحلية والواقعية ونبحث في الممكن‬ ‫ونتفهّم تعقيدات الواقع وصعوباته، وال نقع تحت إغراءات الفرضيات‬ ‫الذهنية القصوى. ونعمل بجاذبية الديمقراطية ونتحرك بروح التجديد‬ ‫والتطوير ومراكمة االيجابيات واالستفادة من األخطاء والمراهنة‬ ‫ُ‬ ‫على المستقبل بتمكين الشباب وإعطائه األولوية في االهتمام والتكوين‬ ‫وتحمل المسؤولية في القيادة واتخاذ القرارات.(6)‬ ‫نتمنى أن تكون الذكرى الثالثة للثورة فرصة حقيقية للمراجعة‬ ‫وتصحيح المسار، وإذ نسجل بارتياح التقدم الحاصل في الحوار‬ ‫الوطني ونأمل أن تهيئ الوفاقات على مختلف المسارات إلنهاء ما تبقى‬ ‫من المرحلة االنتقالية في إطار من الوفاق الوطني المفضي إلى تنظيم‬ ‫انتخابات عاجلة في مناخ سياسي وأمني واجتماعي مناسب وبضمانات‬ ‫تجعل مختلف المتنافسين فيها يقبلون بنتائجها، فإننا ننبّه إلى أن البحث‬ ‫عن التوافق واالحتكام إلى شخصيات «مستقلة» ال يجب أن يكون على‬ ‫حساب التنافس الديمقراطي والصراع حول تحقيق أهداف الثورة، وال‬ ‫يؤدي إلى إضعاف األحزاب التي تضل قوام الحياة السياسية مهما‬ ‫بلغت أخطاء السياسيين.‬ ‫الهوامش‬ ‫(1) مقال منشور بجريدة «مواطنون» العدد041، تونس، جانفي‬ ‫1102 وبالتوازي في جريدة «القدس العربي».‬ ‫(2) راجع على سبيل المثال مقالنا بعنوان «على هامش التجاذبات‬ ‫حول أحداث 9 أفريل 2102: مبادرة سياسية لخفض التشنّج وبناء‬ ‫الشرعية» منشور بجريدة المغرب (اليومية التونسية) بتاريخ 31 أفريل‬ ‫2102. وكذلك مقالنا بعنوان «32 أكتوبر: شرعية ضرورية لكن‬ ‫ليست فوق النقد» منشور بالعدد 41 من مجلة «اإلصالح» االلكترونية‬ ‫بتاريخ 50 أكتوبر 2102. ومقالنا «بين حكم خائف ومعارضة يائسة:‬ ‫متى يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 92 من نفس المجلة‬ ‫بتاريخ 30 ماي 3102. (‪.)www.alislahmag.com‬‬ ‫(3) مقال منشور بجريدة المغرب بتاريخ 31 أفريل 2102.‬ ‫وبالتوازي في جريدة الضمير(اليومية التونسية).‬ ‫(4) مقال منشـــور بجريــــدة «الغـــرب»، عــدد 915، ص71،‬ ‫بتاريخ 8ماي 3102.‬ ‫(5) راجع مقالنا بعنوان « يوميّات الزلزال السياسي بمصر:‬ ‫ّ‬ ‫وال بد للثورة أن تنتصر» منشور بالعدد 43 من مجلة «اإلصالح»‬ ‫االلكترونية بتاريخ 21 جويلية 3102 ومنشور بالتوازي في جريدة‬ ‫الضمير.‬ ‫(6) راجع مقالنا بعنوان «بين حكم خائـف ومعارضة يائسة: متى‬ ‫يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 92 من مجلة «اإلصالح»‬ ‫االلكترونية بتاريخ 30 ماي 3102.‬ ‫-------‬ ‫* األمين العام لحزب اإلصالح والتنمية‬ ‫‪goumani.med@gmail.com‬‬ ‫« لقد جربنا التغيري بالبداية من األعلى واستهداف رأس السلطة والتعويل على قوة الدولة أكثر من‬ ‫االهتمام بتطوير اجملتمع، وكانت النتائج خميبة لآلمال على مدى عقود، فهل نعي الدرس ونعدل‬ ‫ّ‬ ‫البوصلة وجنرب مداخل ثبت جناحها ولو يف ربوع أخرى؟»‬ ‫ّ‬ ‫8‬
  • 9. ‫مجرد رأي‬ ‫ّ‬ ‫الدستور التونسي والمنزلة بين المنزلتين‬ ‫بقلم : عادل السمعلي*‬ ‫لقد أثارت زيــادة فقرة في البند السادس للدستور التونسي الجديد‬ ‫يتم بموجبها تحجير التكفير ردود أفعال غاضبة و عنيفة ومثيرة للجدل‬ ‫من طرف أغلب مساندي احزاب الترويكا الحاكمة في حين استقبلت‬ ‫العائلة اليسارية والحداثية هذه الزيادة باالنشراح والترحاب واعتبرتها‬ ‫مكسبا من المكاسب التي يحق لهم االفتخار بها والتي حسب رأيهـــم‬ ‫من شأنها أن تحد من العنف السياسي وظواهر التكفير التي انتشرت‬ ‫بعد الثورة .‬ ‫إال أن المتأمل في البنود االولى من الدستور بما في ذلك البند‬ ‫السادس مثار الجدل سرعان ما يتفطن إلى أن المعركة بين االسالميين‬ ‫وبين العلمانيين في تونس ما هي إال معركة طواحين الهواء بامتياز‬ ‫فالدستور التونسي في نسخته هذه مؤكد أنه لن يرضي االسالميين‬ ‫ولكنه من الثابت أيضا أنه لن يشفي غليل العلمانيين باعتبار أنه‬ ‫دستور (هجين) يحاول أن يرضي كل األطراف المشاركة في صياغته‬ ‫حتى ولو كان ذلك على حساب منطقه الداخلي وانسجام رؤيته‬ ‫لمشروع مجتمعي تونسي مستقبلي فهو يضم النقيض ونقيضه ويجمع‬ ‫بين الرؤى واألفكار التي ال يمكن أن تجتمع في رؤية واحدة منسجمة‬ ‫ومتناغمة ويعيدنا الى مربع الصراع االسالمي العلماني وكل طرف‬ ‫يؤول مضامينه حسب خلفيته الفكرية و رؤيته االيديولوجية وأنه‬ ‫من المؤكد عند الدخول في تفاصيل هذا الدستور وتطبيقاته العملية‬ ‫ستتداخل التفسيرات والتأويالت وتتباين يمينا ويسارا ....‬ ‫إن شعار التوافق الذي رفع عند كتابة الدستور سينجر عنه دستور‬ ‫ينظر لرؤية مجتمعية مليئة بالتناقض باعتبار أن الرغبة الجامحــة‬ ‫في إرضاء كل العائالت الفكرية واإليديولوجية سيترتب عليها فصول‬ ‫قانونية أقرب منها إلى تبني المنزلة بين المنزلتين فال يمكن وصفه بأنه‬ ‫دستور اسالمي كما ال يمكن أي يوصف بأنه علماني مما يفتح المجال‬ ‫واسعا للتجاذب السياسي المرضي البعيد كل البعد عن استحقاقات ثورة‬ ‫الحرية والكرامة .‬ ‫إن تضمين (تحجير التكفير) وما صحبه من هرج ومرج سياسي‬ ‫وإعالمي يؤكد أن النخب التونسية مازالت تراوح مكانها ولم تتخلص‬ ‫بعد من عقدها االيديولوجية و «فانتازماتها» الفكرية ولم تصل بعد‬ ‫لدرجة الوعي التي تمكنها من فهم وإستيعاب أن الدستور ليس مطلوبا‬ ‫منه أن يكون دستورا إيديولوجيا يحقق انتصارا لهذا الطرف أو‬ ‫ذلك بقدر ما يجب أن يكون عقدا اجتماعيا وثيقا بين كل التونسيين‬ ‫مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية والسياسية وأن التجاذب مجاله الخطط‬ ‫والبرامج السياسية واالقتصادية واالجتماعية وليس مجاله الدستور.‬ ‫إن لعبة االستقطاب الثنائي (إسالمي/علماني) كما كانت تسمى في‬ ‫ّ‬ ‫أواخر الثمانينات تطل برأسها من جديد في جلسات التأسيسي وفي‬ ‫مناقشة بنود الدستور ويبدو أن بعض من عايشها وأكتوى بنارها سابقا‬ ‫لم يستفد من عبر التاريخ ويكفي هنا أن أشير أنها نفس اللعبة التي لعبها‬ ‫بن علي ليستفرد بالسّلطة ويقضي على الجميع فتضرّر منها االسالمي‬ ‫أيّما ضرر ولم يستفد منها العلماني بتاتا إالّ ما ندر من االنتهازيين ..‬ ‫إن محاولة إحياء نفس االشكاليات النظريّة التي طرحت في نهاية‬ ‫ّ‬ ‫الثمانينات والدخول في جداالت بيزنطيّة ال تُسمن وال تُغني من جوع‬ ‫هدفها اإلشغال المنهجي وإلهاء الرأي العام بما ال يعول عليه وما ال‬ ‫فائدة تنجر عنه وهو تقريبا نفس الجدل النظري العقيم الذي انشغلت‬ ‫به النخب أواخر الثمانينات قبل أن يهرب الجمل بما حمل ويستفرد بن‬ ‫علي طويال بالسلطة ويبدو أن النخب لم تستفد من التجربة السابقة ولم‬ ‫تعدل بوصلتها مما يعرضها لخطر السقوط مرة أخرى في الفخ الذي‬ ‫نصب لها في أواخر الثمانينات وكلفها عشرين سنة من الديكتاتورية‬ ‫والظلم واالستبداد ...‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنني أرى أن هذا المنحى القديم والمتجدد الذي أدى إلى إدراج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(تحجير التكفير) في الدستور سيضر ويرجع بالوبال شعبيّا وإنتخابيّا‬ ‫لمن أعتقد أنّه انتصر على خصومه السياسييّن بفرض إدراجه في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدستور ألن التكفير بكل بساطة مبحث فقهي وعقائدي، ومجرد إيراد‬ ‫المصطلح في الدستور سيفتح باب البالء على (الكفّار المفترضيـن)‬ ‫و(التكفيريين المفترضين) على حد سواء .... ألن تفسير المصطلح في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حد ذاته وتحديد مفهومه سيمر حتما عبر مباحث دينيّة وفقهيّة وتاريخيّة‬ ‫بداية من الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا وسيحتاج المشرّع لالستئناس بكل‬ ‫هذه المباحث في هذا الشأن وترجيح معنى يتعارف عليه للمفهوم أمام‬ ‫معاني أخرى... وفي هته الحالة سيمثّل ورطة حقيقية أمام من دفع‬ ‫إلضافة هذه الفقرة في البند السادس من الدستور.‬ ‫ّ‬ ‫إن الدستور الذي يحتاجه ويستحقّه التونسيون هو الدستور الذي‬ ‫يسطّر الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة في كنف األمن واالستقرار‬ ‫ّ‬ ‫والنهوض االقتصادي واالجتماعي. وأن أي حديث أو نقاش وطني‬ ‫خارج مطالب المحاسبة وكشف ملفات الفساد وإصالح القضاء‬ ‫واإلعالم واألمن وإقصاء المنظومة القديمة، وإن أي جدال خارج‬ ‫تحقيق العدالة االنتقاليّة وضمان العدالة االجتماعيّة بين الجهات‬ ‫والتّقسيم العادل للثّروات وتكريس سيادة القرار الوطني هو حديث‬ ‫هراء وكالم دون محتوى لمحاولة تجريف استحقاقات الثّورة نحو‬ ‫معارك جانبيّة ال جدوى منها.‬ ‫--------------------‬‫* كاتب تونسي‬ ‫‪Samaaliadel@yahoo.fr‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫«إن الدستور الذي حيتاجه ويستحقه التونسيون هو الدستور الذي يسطر الطريق حنو حتقيق‬ ‫ّ‬ ‫أهداف الثورة يف كنف األمن واالستقرار والنهوض االقتصادي واالجتماعي »‬ ‫9‬
  • 10. ‫في الصميم‬ ‫األمة في حاجة إلى «رجال مبادئ»‬ ‫وليس إلى حوار «الطرش»‬ ‫بقلم : د.مصباح الشيباني*‬ ‫ّ‬ ‫تمر أمتنــا العربية واإلسالميـــة بمرحلة تاريخية صعبــة، حيث‬ ‫يحاصرها أعداؤها من جميع االتجاهات والمواقع ، وأصبح لصراعها‬ ‫مع األعداء في الداخل والخارج أبعادا جديدة، ومضامين سياسية‬ ‫وأخالقية مضافة إلى مضامين القضايا والمشاكل األصلية من تخلف‬ ‫وتجزئة واستعمار..الخ. فتدنت معه المشاعر اإلنسانية والقيم الوطنية‬ ‫إلى درجة أن تحول معها من كانوا عقالء إلى مخبولين، ومن كانوا‬ ‫أمناء إلى لصوص وتجار في السياسة والدين. فباسم «الحرية» يتم‬ ‫تدمير كيان األمة، وباسم «حقوق اإلنسان» يتم تفكيك الدول وإبادة‬ ‫الشعوب، وباسم «الديمقراطية» يتم االستنجاد بالمحتل. لقد كان‬ ‫السبب المباشر لهذه الثورة هو واقع االستبداد والظَلم الذي هيمن على‬ ‫المشهد المجتمعي العربي. وكان الهدف األول من االحتجاجات هو‬ ‫بناء الديمقراطية واالعتراف بالمواطنة العربية وعودة سيادة الدولة‬ ‫وتحقيق التنمية االقتصادية واالجتماعية..الخ. ومازالت أهدافها الكبرى‬ ‫ّ‬ ‫هي استعادة روح األمة والدفاع عن هويتها العربية واإلسالمية وعن‬ ‫ّ‬ ‫قيمها الثقافية والدينية التي تعرّضت إلى التهديم المنظّ‬ ‫ّ‬ ‫م من قبل أعداء‬ ‫ّ‬ ‫األمة في الداخل والخارج معا.‬ ‫هناك مشاكل وتحديات أخالقية وثقافية وسياسية كبيرة لم نعشها في‬ ‫الماضي. والتحدي الجديد يتعلق أساسا بكيفية إنتاج مجتمعنا العربي‬ ‫نفسه بنفسه، وكيفية تغيير آليات الفعل السياسي في الدولة. فالمشهد‬ ‫السياسي التونسي والعربي عموما، يطرح علينا السّؤال المنهجي‬ ‫التالي: وفق أية معايير يجب أن نشكل تجربتنا السّياسية الجديدة؟ أي‬ ‫هل نحن نعيش مرحلة القطيعة مع ماضي استبدادي مازال قريبا منا أم‬ ‫أننا نعيد إنتاجه ولكن بلبوس ثوري ناعم؟‬ ‫فمن خالل فهمنا للثقافة السّياسية الخاصة بمجتمع ما ومن خالل‬ ‫إرثه المعرفي والقيمي نستطيع أن نعرف كيف تتشكل السّياسات في‬ ‫هذا المجتمع وكيف تنتقل من جيل إلى آخر. وكل أزمة حادة تشمل‬ ‫الحراك السياسي واالجتماعي والثقافي تبدو أوال وقبل كل شيء‬ ‫ّ‬ ‫أزمة حوار بين السّياسيين وأزمة في تأسيس ثقافة االختالف والتعدد‬ ‫والديمقراطية. إن االفتراء على هذه القيم والمبادئ اإلنسانية النبيلة،‬ ‫واستشراء ازدواجية المعايير في التعامل معها من قبل الفاعلين‬ ‫السياسيين (حكومات ومعارضات) في الوطن العربي أدى إلى مزيد‬ ‫تعميق هذه المشاكل واالبتعاد عن حل قضايانا االستراتيجية، وبات‬ ‫ّ‬ ‫األمر سافرا ومبتذال إلى درجة غير معقولة وغير مقبولة وتأكد لنا‬ ‫اليوم أن محنة األمة في محنة بعض نخبها الفكرية وسياسييها أي في‬ ‫ّ‬ ‫غياب «رجال المبادئ».‬ ‫ّ‬ ‫نعتقد أن جميع الفاعلين السّياسييـــن واإلعالمييــن والمثقفيـــن‬ ‫لم يتحملوا بعد مسؤولياتهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي‬ ‫ّ‬ ‫التونسي وتخليصه من التشوّهات األخالقية والقيمية السّابقة والتي‬ ‫مازالت تطبع ممارساتهم ومواقفهم وخطاباتهم إلى اليــــوم. فهؤالء‬ ‫الفاعلون يمثلون قنوات الثقافة السياسية في المجتمع. والمناخ‬ ‫ّ‬ ‫السياسي الجديد «المتحرّر» الذي حرّكتــــه الثورة لم يخفف من حدة‬ ‫الصراعات السياسية واأليديولوجية والنزاعات االجتماعيــــة والعنف‬ ‫اإلعالمــــي في مجتمعنـــا التونســـي بـــل عمقهـــا أكثر من جديد‬ ‫في مجتمعنـــا . وهذه الحالـــــة من «الفتنـــة السياسيــــة» ليست إال‬ ‫إحدى تجليات ضعـــف األسس التي قام عليها «مجتمع النخبة» وتأكد‬ ‫ّ‬ ‫أن هذه النخبة هي سبب نكبة مجتمعنا العربي في مختلف الحقـــول‬ ‫ّ‬ ‫السياسية والثقافية واإلعالمية ألنها تفقد الحد األدنى من المبدئيـــة في‬ ‫ّ‬ ‫مقارباتها السياسية التي تدعي أنها تناضل من أجلها. والمجتمـــع الذي‬ ‫يفتقد فيه قادته السياسيــــون القدرة على إعمال العقـــل وتطويـــر‬ ‫طرق التعامــــل في ما بينهم في إطار الوحدة والمشاركة السياسية‬ ‫واالنخراط الفعلي وتحمل المسؤولية في إدارة الشأن العام، سوف يبقى‬ ‫ّ‬ ‫وضعه االجتماعي العام ميزته القصور الذّ‬ ‫اتي وغياب الوعي السّياسي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتفكك المؤسّساتــــي للدولـــة وللمجتمـــع وقد يعود في أية لحظة‬ ‫إلى الحالة البربرية .‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن التعدد واالختالف بين الناس ليس حقّا قانونيا فقط، بل هو سنّة‬ ‫ُ‬ ‫وثقافة تحتاج إلى دربة حتى تتحول إلى ممارسة يومية في المجتمع.‬ ‫وحتى تصبح نمطا من السّلـــــوك أو نموذجـــا يقتدي به جميع‬ ‫األفـــراد وفي مختلف المواقــــع. وهذه الثقافـــة ال يمكن أن تتأسّـــــس‬ ‫إال في مناخ سياسي وثقافي تعددي في طرق التفكير وفـــي الوعي.‬ ‫ّ‬ ‫أي أن ثقافة االختالف ال تمثل ظاهرة سياسية فقــــط، بل هي أيضا‬ ‫ّ‬ ‫ظاهرة اجتماعيـــة وثقافيـــة ورمزية. أي أن مستـــــوى مشاركــــة‬ ‫المواطنين في الحراك السّياســــي مثال، يتأثر بعــــدد من المتغيرات‬ ‫االجتماعية والثقافية الخاصة بالمجتمع الذي ينتمـــون إليـــه. لذلك،‬ ‫فهي مرتبطة بنسق التنشئة االجتماعية باعتبارها عملية يتدرب عليها‬ ‫الفرد طوال حياته وتمكنه من استبطان القيم واالنخراط في العمل‬ ‫الجماعي لخدمة الشأن العام. وهذه التنشئة تنطلق من المحيط العائلي‬ ‫ّ‬ ‫« نعتقد أن مجيع الفاعلني السياسيني واإلعالميني واملثقفني مل يتحملوا بعد مسؤولياتهم يف إعادة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشكيل املشهد السياسي التونسي وختليصه من التشوهات األخالقية والقيمية السابقة واليت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مازالت تطبع ممارساتهم ومواقفهم وخطاباتهم إىل اليوم . »‬ ‫01‬
  • 11. ‫األمة في حاجة إلى «رجال مبادئ»‬ ‫وليس إلى حوار «الطرش»‬ ‫ثم التعليمي والمجتمعي. وبالتّالي، فالتنشئة السّياسية للفرد ليست‬ ‫عملية شكلية ومناسباتية، وإنّما هي عبارة عن قيم ومشاعر واتجاهات‬ ‫يستبطنها المواطن وتوجه سلوكه للمشاركة المسؤولة في إطار نظام‬ ‫ديمقراطي.‬ ‫ّ‬ ‫ومن الالّفت في تونس مثال، أن مختلف البرامج السّياسية‬ ‫والسّجاالت الفكرية التي تدور في رحاب الوسائط الثقافية واإلعالمية‬ ‫تكشف لنا كل يوم عن مستوى رهيب من التخلف من حيث اللّغة‬ ‫السوقية المستخدمة ورفض االستماع إلى اآلخر ومنعه من التعبير عن‬ ‫رأيه. إذ ال تساعد مختلف البرامج السّياسية في تكوين ثقافة سياسية‬ ‫متنورة بمقدار تساعد على تأجيج الصراعات وتعميق النّزاعات‬ ‫السياسية واأليديولوجية. وال يحتاج أي متابع مشغول أو مراقب مهتم‬ ‫بقضايا األمة إلى مقدمات من أي نوع حتى يقول أنّنا في حاجة إلى‬ ‫إنشاء خطاب ثقافي وسياسي مختلف حتى ال نتأخر أو نتوه في حركة‬ ‫التاريخ. وهذه الحالة من العطالة التي تخترق الواقع العربي هي تعبير‬ ‫عن أزمة بنيوية وحضارية شاملة وعميقة جدا ال يمكن أن تعالج في‬ ‫سنوات بل تحتاج إلى عقود من الزمن. فلم تكن منجزات ثالث سنوات‬ ‫ّ‬ ‫من «الحراك الثوري» سوى انتكاسة وردة حقيقية لما حققته األمة‬ ‫على مدى أكثر من أربعة عشرة قرنا، وبدال من أن توجّه «النخبة»‬ ‫بوصلتها نحو تغيير وضع الجماهير العربية واإلسالمية المنتفضة‬ ‫من المحيط إلى الخليج استخدمت من قبل أعداء الشعب إلعادة إنتاج‬ ‫مناخ عربي مضطرب ومنقسم داخليا، وضع عربي تابع للغرب‬ ‫االستعماري وللصهيونية.‬ ‫لقد كانت التجربة السياسية خالل الثالث سنوات الماضية صدمة‬ ‫أليمة للمواطن العربي، وقللت من رغبته في متابعة المسائل السياسية‬ ‫أو المشاركة في الحياة السياسية، سواء كان علنا أو ضمنا. فالخطاب‬ ‫السياسي المتداول منذ األيام األولى من قيام الحراك الثوري بدا وكأنه‬ ‫يتجه نحو إغراق المجتمع في «ثقافة اإلقصاء» من جديد. ومعرفة‬ ‫أزمة هذا الخطاب في بعده األنثربولوجي يؤدي بنا إلى فهم أفضل‬ ‫للسياسيين ونخبنا الفكرية. وطريقة معالجة الفاعلين السياسيين للمسائل‬ ‫وكيفية إدارة حواراتهم وتفاعالتهم السياسية تعبر كلها عن وجود أزمة‬ ‫في ثقافتنا السياسية وأزمة في «أسلوب حياتنا» نتيجة غلبة ذهنية‬ ‫اإلقصاء وهيمنة «حوار الطرش» على المشهد السّياسي التونسي‬ ‫والعربي عموما.‬ ‫لم تكن أهداف الصراعات السياسية بين ما تسمى بـالمعارضة‬ ‫والحكومات االنتقالية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، من‬ ‫أجل إعالء شأن دين أو إستقالل وطن، أو من أجل دفع المظالم عن‬ ‫الناس وتفكيك منظومة االستبداد، أو من أجل نصرة قضايا العرب‬ ‫والمسلمين، وإنما كانت جميعها ذات مقاصد وغايات التناحر‬ ‫والتقاتل طمعا في المال والملك، فسقط جميعهم في ثقافة التخريب‬ ‫والفتنة السياسية. وقد بلغت رداءة المشهد السياسي في هذه األقطار‬ ‫إلى حد دعوة بعضهم إلى التحالف مع األعداء التاريخيين لألمة من‬ ‫أجل االستفراد بـ «غنيمة الثورة» وأصبحت الفتنة بالمفرق والموت‬ ‫بالجملة، فحسبنا هللا ونعم الوكيل فيهم جميعا؟‬ ‫ّ‬ ‫نعتقد أن قراءة «التجربة الثورية» العربية الرّاهنة بشكل علمي‬ ‫وموضوعي يمثّ‬ ‫ل الخطوة األولى لمعرفة كيفية التعامل مع تحدياتها‬ ‫الداخلية وأخطارها الخارجية معا. ويتوقف نجاح هذا المشروع على‬ ‫مدى تجذير الوعي الثوري وطنيا وقوميا، وإدراك الشعب العربي‬ ‫ّ‬ ‫طبيعة أعدائه الحقيقيين ومواقعهم المختلفة، وفك االرتباط بالغرب‬ ‫ّ‬ ‫االستعماري حتى يعطي للجديد الثوري إمكانية النجاح، ألن الثورات‬ ‫ال تصنع ويستحيل أن تنجح بأسلوب االحتماء باآلخر اإلستعماري‬ ‫الذي ال يريد إال حماية مصالحه فقط.‬ ‫فغالبا ما نقرأ بعض الكتابات والقراءات التي تهمل جانبا مهما‬ ‫ّ‬ ‫من طبيعة الحراك «الثوري» الدائر اليوم في الوطن العربي وعالقته‬ ‫ّ‬ ‫بالصراعات اإلقليمية والدولية عموما. إن هدف هذه الثورات ليس‬ ‫اإلطاحة بالحكام العرب الطغاة والمستبدين فقط، مثلما يحاول البعض‬ ‫من العرب والغربيين إيهامنا به، ولن يكون ذلك منتهى المعركة طالما‬ ‫بقيت األسباب الحقيقية لالستبداد والتخلف والفقر واألمية قائمة. كما‬ ‫أنَ الدراسة الموضوعية والعلمية االستشرافية تقتضي أن ننظر إلي‬ ‫هذه الثورات باعتبارها حركات وانتفاضات جماهيرية ديناميكية ـ سلبا‬ ‫وإيجاباـ حتى ال نضعها في إطار مغلق وجامد قد يفقدها عالقاتها‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية وتفاعالتها الداخلية والخارجية. فالمناخ العربي والدولي‬ ‫الرّاهن ال يساعد على نجاح هذه الثورة بقدر ما يساعد على وأدها‬ ‫وإفشالها.‬ ‫-------------------‬‫* أستاذ وباحث في علم االجتماع‬ ‫‪abounour05@yahoo.fr‬‬ ‫« بدال من أن توجه «النخبة» بوصلتها حنو تغيري وضع اجلماهري العربية واإلسالمية املنتفضة من احمليط‬ ‫ّ‬ ‫إىل اخلليج استخدمت من قبل أعداء الشعب إلعادة إنتاج مناخ عربي مضطرب ومنقسم داخليا،‬ ‫وضع عربي تابع للغرب االستعماري وللصهيونية. »‬ ‫11‬
  • 12. ‫حوار حول الثورة‬ ‫ّ‬ ‫في السؤال القديم المتجدد:‬ ‫الثورة العربية بين الممكن والمستحيل‬ ‫ّ‬ ‫ّّ‬ ‫حوار مع: الدكتور األزهر الزناد، واألستاذ عماد محنان(*)‬ ‫تنسيق الحوار : د. محمد الحاج سالم*‬ ‫خطاب الثورة والعقالنيّة‬ ‫ّ‬ ‫محمد الحاج سالم: في ظل االلتباسات المهيمنة على الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫«الثّوري» العربي المعاصر، هل يبدو لكم ذلك الخطاب عقالنيّا ً ؟‬ ‫وما هي مظاهر العقالنيّة فيه ؟‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ األزهر الزنّاد: للخطاب الثّوري ثالث مراحل - في ما‬‫أرى- تناسب درجةُ‬ ‫العقالنيّة فيه ترتيب المرحلة: ما قبل الثورة‬ ‫َ‬ ‫وزمن الثورة وما بعدها. فما قبلها خطاب إعداد للثورة يوصّف‬ ‫ّ‬ ‫الواقع المتردي وفيه نسبة كبيرة من العقالنيّة، وفي زمنها خطاب‬ ‫استنهاضي حماسي قد تتقلّ‬ ‫ص فيه العقالنيّة وأما خطاب ما بعد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثّورة فال مناص من أن يكون عقالنيّا ً بما يرسم من برامج مستقبليّة.‬ ‫وهذه المراحل في الثورات العربيّة متداخلة متزامنة بحكم تتابعها‬ ‫فتزامنها فاختالفها في المراحل المذكورة باالستتباع. فأسبقها‬ ‫الثورة التونسيّة، وفيها يلمس النّاظر زيادة في درجة العقالنيّة في‬ ‫الخطاب بحكم مقتضيات المرحلة: تنظيم االنتخابات، مهام المجلس‬ ‫ّ‬ ‫التّأسيسي، برامج األحزاب ومضامينها، التّحاليل الفكريّة السياسيّة‬ ‫ّ‬ ‫بما في الواحد منها من تصوّر(ات) للمستقبل، إلخ. وفي العموم،‬ ‫ّ‬ ‫أرى أن في الخطاب العربي صوتين على األقلّ: عقالنيّا ً وغير‬ ‫ّ‬ ‫عقالني، وكالهما يعد بمشروع اجتماعي وللواحد منهما أنصار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومعارضون على مستويين وطني وعالمي، وقد يخفت صوت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويرتفع آخر، وقد تتبلور عقالنيّة توافقيّة في نهاية المطاف.‬ ‫ عماد محنان: خالفيّا ً يكون جواب مسألة «عقالنيّة الخطاب‬‫الثّوري العربي الرّاهن» كخالفيّة مفهوم العقالنيّة وبقدرها. وهذا‬ ‫فضالً عن سياقيّة مفهوم الخطاب نفسه. ولكون المعاصرة حجابا،‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فإن طرح المسألة راهنا ً ال يبدو مراعيا ً للمسافة الزمنيّة الضّروريّة‬ ‫ُ‬ ‫للرّؤية. لذا يكون بحث المسألة تقصّداً لثمار غير ناضجة، فيؤول‬ ‫الجني جناية بما هو هتك للبستان وفتك بعافية اإلنسان. من جهة‬ ‫ّ‬ ‫الفهم الفلسفي يتسنّى لنا الكالم على عقالنيّة «الخطاب الثّوري‬ ‫العربي» باتّخاذ مطيّة التّمييز بين تصوّريْن لمصدر المعرفة :‬ ‫العقل والتّجربة. وال يبدو في الطّابع المفاجيء لثورة تونس فاتحة‬ ‫ثورات ما يُعرف بالرّبيع العربي أنّه بوسع أيّة تمثّالت عقليّة‬ ‫ْ‬ ‫خالصة أن تستبق هذه الثّورة أو أن تستشرف مآالتها. بل لعلّه‬ ‫كان في قراءة الحراك المجتمعي استثماراً لمحصّلة معرفة تجريبيّة‬ ‫فيزيائيّة تجسّمت في شعارات مستقاة من السّياق المعرفي التّجريبي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفيزيائي شأن مقولة «كل فعل يقابله رد فعل...» و مقولة «الكبت‬ ‫ّ‬ ‫يولّد االنفجار». ولئن لم يكن ما أسميناه بـ «الخطاب الثّوري‬ ‫ّ‬ ‫العربي» لراهنيّته شاهداً بمقوّماته فلعلّه يبدو واعداً بمقدماته.‬ ‫***‬ ‫ّ‬ ‫محمد الحاج سالم: هل تعني بذلك نفي أي دور للنّخب ؟‬ ‫ّ‬ ‫ عماد محنان: الثّورة بما هي أداة التّغيير التّ‬‫اريخي كانت أكبر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هموم الفلسفة المعاصرة. بل لقد أدى الشاغل التّغييري إلى قطيعة‬ ‫بين الفلسفة ومطلبها التّأملي العالق بها بما هي «نظر في الوجود».‬ ‫ّ‬ ‫وتُعبّر عن هذه القطيعة نشأة ما يصطلح عليه بفلسفة الممارسة‬ ‫أو «البراكسيس». ولما كانت النّخب العربيّة التي وجّهت الثّورة‬ ‫ّ‬ ‫وأطّرتها حاملة لرؤية هذه الفلسفة لإلنسان والتّ‬ ‫اريخ سواء بالمعرفة‬ ‫ّ‬ ‫أو بالتّبنّي فإن الجماهير نفسها انخرطت في هذه الرّؤية أمالً في‬ ‫خالص ممكن مما عكس تسليما ً للمثقّ‬ ‫ف والعالم بزمام التّأسيس‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعي.‬ ‫ّ‬ ‫«من جهة الفهم الفلسفي يتسنى لنا الكالم على عقالنية «اخلطاب الثوري العربي» باتخّاذ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫مطية التمييز بني تصورين ملصدر املعرفة : العقل والتجربة. »‬ ‫ّ ْ‬ ‫21‬
  • 13. ‫ّ‬ ‫في السؤال القديم المتجدد:‬ ‫الثورة العربية بين الممكن والمستحيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫غير أن جدل العالقة بين المثقّف/السّياسي والجماهير ال يسمح‬ ‫ّ‬ ‫بوالدة خطاب ثوري عقالني أو غير عقالني إالّ في االعتباريْن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإليديولوجي والقطاعي. فمن جهة اإليديولوجيا تلوح في األفق‬ ‫السّياسي العربي هيمنة النّزوع اإلحيائي الذي يصبو إلى استرجاع‬ ‫ّ‬ ‫الماضي. وهو ما فعّل سؤال الهويّة والجذور وغلّب حضور المكوّن‬ ‫ّ‬ ‫العقدي الوثوقي. وأما من جهة القطاعيّة فإن الخطاب الثّوري مأخوذ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بضرورة التّبسيط إلى حد التّسطيح مراعاة لتردي مراتب قطاعات‬ ‫ّ‬ ‫واسعة من جماهير الشعب العربي في سلّم التّعليم والثّقافة.‬ ‫الثورة والتكنولوجيا الرقميّة‬ ‫محمد الحاج سالم: نعم، لكن بقطع النظر عن المسارات الممكنة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للثورة، فإن الثابت أن التّكنولوجيا الرّقميّة لعبت دوراً أساسيّا ً في تحديد‬ ‫ّ‬ ‫المسار الثّوري العربي. هل ترون أن دورها كان في تثوير الطاقات‬ ‫الشعبيّة أم اقتصر فحسب على استنساخ الثورات؟‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ األزهر الزنّاد: لكل ثورة أدواتها حسب العصور، والمهم أن ال‬‫ّ‬ ‫قيام لثورة ما لم تتوفّ‬ ‫ر جملة من العوامل المتظافرة يعيشها جميع النّاس‬ ‫أو جلّهم، وهي في جوهرها فقر وشعور بالظّلم وإحباط وانعدام الثّقة في‬ ‫الحاكم فيكون البحث عن البديل. وقد ينشأ البديل نشوءاً جماعيّا ً عفويّا ً‬ ‫ّ‬ ‫ثم يتبلور في رؤية متكاملة يتوحّد فيها صنّاع الثّورة: أي أبناء الشعب‬ ‫ّ‬ ‫شيبهم وشبابهم. وإذ كانت التكنولوجيا الرّقميّة متاحة استخدموها. فهي‬ ‫أداة افتراضيّة ولكنّها ذات نتائج تتحقّق في الميدان تسهّل التّواصل‬ ‫فالتّنظيم وتنسيق الفعل وسرعته في الميدان رغم اتّساعه، فتضمن‬ ‫توحيد الطّاقات وتوجيهها توجيها ً ناجعا ً وهذا ما شهدناه، وهنا كانت‬ ‫مزيّة التّكنولوجيا الرّقميّة. وإذ كانت هذه التّكنولوجيا منتشرة بين‬ ‫شعوب متشابهة في ظروف مهيّئة لقيام الثورة اعتُمدت فيها جميعا ً‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وبنفس األسلوب تقريبا. وهذا الشبه لم تفرضه أدوات التّواصل وإنّما‬ ‫فرضه شبه في واقع بائس خلقته أنظمة متشابهة انجرّ‬ ‫عنه شبه في‬ ‫ّ‬ ‫الحلول المنشودة وفي السّبيل إلى تحقيقها. ولعل للتّكنولوجيا الرّقميّة‬ ‫دوراً في البناء بعد قيام الثّورة. فهي، بهذا المعنى،لم تستكمل بعد.‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ عماد محنان: دشنت العشريّة األخيرة من القرن العشرين بحق‬‫ّ‬ ‫موت الجمركي وحارس الحدود. فلم تقف أوروبا الجديدة المتجددة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عند عتبة رأب الصّدع األلماني وال عند فك أسر األقلّيات المسلمة في‬ ‫البلقان من تغوّل القوميّات المتغلّبة وعنجهيّتها، بل لقد أسّست كيانها‬ ‫األوروبي الموحّد بحدود مفتوحة. وقد خطا مشروع العولمة األمريكي‬ ‫خطوته العمالقة بإسدال نسيج شبكة العنكبوت التّواصليّة على مساحة‬ ‫العالم. وصارت المعلومة هي الملِكة في خليّة النّحل البشري العالمي.‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكذبت نوايا اقتصاد السّوق المحمومة هواجس المتخوّفين من أن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫الغرب يريد لنا أن نظل رهن الحبس الحضاري البارد وأن نبقى على‬ ‫حال تخلّفنا وجمودنا. وذلك أن اكتساح األسواق يفترض تأهيلها معرفيّا ً‬ ‫ّ‬ ‫وتقنيّا ً ألجل تسهيل التّواصل مع المصنّع والتّعامل مع المصنوع.‬ ‫ُ‬ ‫لذا كانت التّحفة المعلوماتيّة أولى منحوتات اليد األجنبيّة في بالدنا‬ ‫بالتّمويل «المشروط طبعا» والضّغط لنشر ثقافتها وتعميمها على‬ ‫مستويات التّعليم جنبا ً إلى جنب مع إشاعة اإلنقليزيّة «االستهالكيّة»‬ ‫في التّعليم الجامعي وما دونه.‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد وجد الشباب العربي المأزوم في فضاء األنترنت المفتوح ــ‬ ‫وإن بتعبيرنا األثيل ـ مبكى لليتامى وداراً للنّدامى : نشطت عالقات‬ ‫ّ‬ ‫التّواصل مع األوساط الشبابيّة األوروبيّة واألمريكيّة في صلب‬ ‫مقايضة ـ بيْنمجتمعيّةـ مقنّعة تُ‬ ‫بادل بُعبع الفقر وحلم الهجرة في العالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي بهاجس التّصحّر الشبابي وشبح التّهرّم السكاني ونقص اليد‬ ‫العاملة البخسة خارج أطر الضّمانات الحقوقيّة في المجتمعات الغربيّة.‬ ‫ووجدت الجماعات الحقوقيّة والمثقّفة طريقا ً سالكة إلى ضمير الرّأي‬ ‫ّ‬ ‫العام العالمي ومؤسّساته لفضح رياء الدكتاتوريّة وتعرية جرائمها.‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتدعمت ثقافة التّواصل الرّقمي في ظل هذا الفضاء «الثّوري»‬ ‫ّ‬ ‫من جهة سرعة توصيل المعلومة ومدى انتشارها فتشكلت لغة برقيّة‬ ‫ّ‬ ‫قائمة على الرّموز والمختصرات واألرقام. وقد أدى هذا الفضاء ولغة‬ ‫ّ‬ ‫التّواصل فيه دوراً بالغ األهميّة في توسيع الهوّة بين فئة الشباب وباقي‬ ‫فئات المجتمع العربي. وولّد ذلك إحساسا ً بامتالك رؤية مغايرة للممكن‬ ‫المجتمعي ومؤهّالت تقنيّة وتواصليّة هي مفتاح األزمة وأداة التّغيير.‬ ‫هكذا كان للثّورة أن انطلقت في تونس ثم مصر من حناجر جيل شابّ‬ ‫ّ‬ ‫لطالما سّفهه أساتذته ومعلّموه وقنتوا منه، ولم يروا إالّ قطاعا ً‬ ‫منه‬ ‫ّ‬ ‫غرق في الكحوليّة واحترف الغياب أو تلهّى بمواقع الدردشة وقنوات‬ ‫اإلباحيّة.‬ ‫***‬ ‫ّ‬ ‫محمد الحاج سالم: تقصد أن الثورة كانت غير متوقّعة بما أنّها‬ ‫ّ‬ ‫كانت غير تقليديّة في أدواتها ؟‬ ‫ّ‬ ‫ عماد محنان: نعم، فقد تسلّح الشباب الثّائر بلغة التّواصل التي‬‫تخصّه دون سواه. إنّها لغة تتّسم بكل سمات الثّ‬ ‫ّ‬ ‫ورة. لغة مختصرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫« لكل ثورة أدواتها حسب العصور، واملهم أن ال قيام لثورة ما مل تتوفر مجلة من العوامل املتظافرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعيشها مجيع الناس أو جلهم، وهي يف جوهرها فقر وشعور بالظلم وإحباط وانعدام الثقة يف‬ ‫احلاكم فيكون البحث عن البديل. »‬ ‫31‬